الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      وإذ فرقنا بكم البحر عطف على ما قبل، والفرق الفصل بين الشيئين، وتعديته إلى البحر بتضمين معنى الشق، أي فلقناه، وفصلنا بين بعضه وبعض لأجلكم، وبسبب إنجائكم، والباء للسببية الباعثة بمنزلة اللام، إذا قلنا بتعليل أفعاله تعالى، وللسببية الشبيهة بها في الترتيب على الفعل، وكونه مقصودا منه، إن لم نقل به، وإنما قال سبحانه : (بكم) دون لكم، لأن العرب على ما نقله الدامغاني تقول: غضبت لزيد إذا غضبت من أجله، وهو حي، وغضبت بزيد إذا غضبت من أجله، وهو ميت، ففيه تلويح إلى أن الفرق كان من أجل أسلاف المخاطبين، ويحتمل أن تكون للاستعانة على معنى بسلوككم، ويكون هناك استعارة تبعية بأن يشبه سلوكهم بالآلة في كونه واسطة في حصول الفرق من الله تعالى، ويستعمل الباء، وقول الإمام الرازي قدس سره : إنهم كانوا يسلكون، ويتفرق الماء عند سلوكهم، فكأنه فرق بهم، يرد عليه أن تفرق الماء كان سابقا على سلوكهم على ما تدل عليه القصة، وقوله تعالى : أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم وما قيل : إن الآلة هي العصا كما تفهمه الآية غير مسلم، والمفهوم كونها آلة الضرب لا الفرق، ولو سلم يجوز كون المجموع آلة على أن آلية السلوك على التجوز، وقد يقال : إن الباء للملابسة، والجار والمجرور ظرف مستقر واقع موقع الحال من الفاعل، وملابسته تعالى معهم حين الفرق ملابسة عقلية، وهو كونه ناصرا وحافظا لهم، وهي ما أشار إليه موسى عليه السلام بقوله تعالى : كلا إن معي ربي سيهدين ومن الناس من جعله حالا من البحر مقدما، وليس بشيء، لأن الفرق مقدم على ملابستهم البحر، اللهم إلا على التوسع، واختلفوا في هذا البحر، فقيل : القلزم، وكان بين طرفيه أربعة فراسخ، وقيل : النيل، والعرب تسمي الماء المالح والعذب بحرا إذا كثر، ومنه مرج البحرين يلتقيان وأصله السعة، وقيل : الشق، ومن الأول البحرة البلدة، ومن الثاني البحيرة التي شقت أذنها، وفي كيفية الانفلاق قولان، فالمشهور كونه خطيا، وفي بعض الآثار ما يقتضي كونه قوسيا، إذ فيه أن الخروج من الجانب الذي دخلوا منه، واحتمال الرجوع في طريق الدخول يكاد يكون باطلا، لأن الأعداء في أثرهم، وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق ما يتعلق بهذا المبحث.

                                                                                                                                                                                                                                      فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون في الكلام حذف يدل عليه المعنى، والتقدير وإذ فرقنا بكم البحر، وتبعكم فرعون وجنوده في تقحمه، فأنجيناكم أي من الغرق، أو من إدراك فرعون وآله لكم، أو مما تكرهون، وكنى سبحانه بآل فرعون عن فرعون وآله، كما يقال : بني هاشم، وقوله تعالى : ولقد كرمنا بني آدم يعني هذا الجنس الشامل لآدم أو اقتصر على ذكر الآل لأنهم إذا عذبوا بالإغراق كان مبدأ العناد، ورأس الضلال أولى بذلك، وقد ذكر تعالى غرق فرعون في آيات أخر من كتابه كقوله سبحانه فأغرقناه ومن معه جميعا فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم وحمل الآل على الشخص حيث إنه ثبت لغة كما في الصحاح: ركيك غير مناسب للمقام، وإنما المناسب له التعميم، وناسب نجاتهم بإلقائهم في البحر وخروجهم منه سالمين نجاة نبيهم موسى على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام من الذبح بإلقائه وهو طفل في البحر، وخروجه منه سالما، ولكل أمة نصيب من نبيها، وناسب هلاك فرعون وقومه بالغرق هلاك بني إسرائيل على أيديهم بالذبح، لأن الذبح فيه تعجيل الموت بإنهار الدم، والغرق فيه إبطاء الموت، ولا دم خارج، وكان ما به الحياة، وهو الماء كما يشير إليه قوله تعالى : وجعلنا من الماء كل شيء حي [ ص: 256 ] سببا لإعدامهم من الوجود، وفيه إشارة إلى تقنيطهم، وانعكاس آمالهم كما قيل :


                                                                                                                                                                                                                                      إلى الماء يسعى من يغص بلقمة إلى أين يسعى من يغص بماء

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان الغرق من أعسر الموتات وأعظمها شدة، ولهذا كان الغريق المسلم شهيدا، جعله الله تعالى نكالا لمن ادعى الربوبية، وقال: أنا ربكم الأعلى، وعلى قدر الذنب يكون العقاب، ويناسب دعوى الربوبية والاعتلاء انحطاط المدعي، وتغييبه في قعر الماء، ولك أن تقول لما افتخر فرعون بالماء كما يشير إليه قوله تعالى حكاية عنه : أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي جعل الله تعالى هلاكه بالماء، وللتابع حظ وافر من المتبوع، وكان ذلك الغرق والإنجاء والإغراق يوم عاشوراء، والكلام فيه مشهور، وأنتم تنظرون جملة حالية، وفيها تجوز، أي وآباؤكم ينظرون، والمفعول محذوف، أي جميع ما مر، فإن أريد الأحكام فالنظر بمعنى العلم، وعليه ابن عباس رضي الله تعالى عنه، وإن نفس الأفعال من الغرق والإنجاء والإغراق فهو بمعنى المشاهدة، وعليه الجمهور، والحال على هذا من الفاعل، وهو معمول بجميع الأفعال السابقة على التنازع، وفائدته تقرير النعمة عليهم، كأنه قيل : وأنتم لا تشكون فيها، وجوز أن يقدر المفعول خاصا، أي غرقهم، وإطباق البحر عليهم، فالحال متعلق بالقريب، وهو أغرقنا، وفائدته تتميم النعمة، فإن هلاك العدو نعمة، ومشاهدته نعمة أخرى، وفي قصص الكسائي أن بني إسرائيل حين عبروا البحر، وقفوا ينظرون إلى البحر، وجنود فرعون، ويتأملون كيف يفعلون، أو انفلاق البحر، فيكون الحال متعلقا بالأصل في الذكر، وهو (فرقنا)، وفائدته إحضار النعمة ليتعجبوا من عظم شأنها، ويتعرفوا إعجازها، أو ذلك الآل الغريق، فالحال من مفعول (أغرقنا) متعلق به، والفائدة تحقيق الإغراق وتثبيته، وقيل : المراد ينظر بعضكم بعضا، وأنتم سائرون في البحر، وذلك أنه نقل أن بعض قوم موسى قالوا له : أين أصحابنا؟ فقال : سيروا فإنهم على طريق مثل طريقكم، قالوا : لا نرضى حتى نراهم، فأوحى الله تعالى أن قل بعصاك هكذا، فقال بها على الحيطان فصار بها كوى فتراءوا وسمعوا كلام بعضهم بعضا، فالحال متعلق (بفرقنا)، وفائدته تتميم النعمة، فإن كونهم مستأنسين يرى بعضهم حال بعض نعمة أخرى، وبعض الناس يجعل الفعل على هذا الوجه منزلا منزلة اللازم، وليس بالبعيد، نعم البعيد جعل النظر هنا مجازا عن القرب، أي وأنتم بالقرب منهم، أي بحال لو نظرتم إليهم لرأيتموهم، كقولهم: أنت مني بمرأى ومسمع ، أي قريب مني بحيث أراك وأسمعك، وكذا جعله بمعنى الاعتبار، أي وأنتم تعتبرون بمصرعهم، وتتعظون بمواقع النقمة التي أرسلت عليهم، هذا وقد حكوا في كيفية خروج بني إسرائيل وتعنتهم، وهم في البحر، وفي كيفية خروج فرعون بجنوده، وفي مقدار الطائفتين حكايات مطولة جدا لم يدل القرآن ولا الحديث الصحيح عليها، والله تعالى أعلم بشأنها، والإشارة في الآية أن البحر هو الدنيا، وماءه شهواتها ولذاتها، وموسى هو القلب، وقومه صفات القلب، وفرعون هو النفس الأمارة، وقومه صفات النفس وهم أعداء موسى وقومه، يطلبونهم ليقتلوهم، وهم سائرون إلى الله تعالى، والعدو من خلفهم، وبحر الدنيا أمامهم، ولا بد لهم في السير إلى الله تعالى من عبوره، ولو يخوضونه بلا ضرب عصا لا إله إلا الله بيد موسى القلب، فإن له يدا بيضاء في هذا الشأن، لغرقوا كما غرق فرعون وقومه، ولو كانت هذه العصا في يد فرعون النفس لم ينفلق، فكما أن يد موسى القلب شرط في الانفلاق كذلك عصا الذكر شرط فيه، فإذا حصل الشرطان، وضرب موسى بعصا الذكر مرة بعد أخرى ينفلق بإذن الله بحر الدنيا بالنفي، وينشبك ماء الشهوات يمينا وشمالا، ويرسل الله تعالى ريح العناية وشمس الهداية على قعر ذلك البحر، فيصير يابسا من ماء الشهوات، فيخرج موسى وقومه بعناية التوحيد [ ص: 257 ] إلى ساحل النجاة، " وإن إلى ربك المنتهى " ويقال لفرعون وقومه إذا غرقوا وأدخلوا نارا : " ألا بعدا للقوم الظالمين "

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية