الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                          [ ص: 13 ] ذكر إنزال الله جل وعلا الآي في براءة عائشة رضي الله عنها عما قذفت به

                                                                                                                          7099 - أخبرنا أحمد بن علي بن المثنى ، والحسن بن سفيان ، وعدة ، قالوا : حدثنا أبو الربيع الزهراني حدثنا فليح بن سليمان عن ابن شهاب الزهري عن عروة بن الزبير ، وسعيد بن المسيب ، وعلقمة بن وقاص ، وعبيد الله بن عبد الله ، [ ص: 14 ] عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم حين قال لها أهل الإفك ما قالوا ، فبرأها الله منه .

                                                                                                                          قال الزهري : وكلهم حدثني طائفة من حديثها وبعضهم أوعى من بعض ، وأثبت له اقتصاصا ، وقد وعيت عن كل واحد منهم الحديث الذي حدثني عن عائشة ، وبعض حديثهم يصدق بعضا .

                                                                                                                          زعموا أن عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج سفرا أقرع بين أزواجه ، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه ، فأقرع بيننا في غزاة غزاها ، فخرج سهمي ، فخرجت معه بعدما أنزل الحجاب ، وأنا أحمل في هودجي ، وأنزل فيه ، فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته تلك ، قفل ، ودنونا من المدينة ، فآذن ليلة بالرحيل ، فقمت فمشيت حتى جاوزت الجيش ، فلما قضيت شأني أقبلت إلى الرحل فلمست صدري ، فإذا عقد لي من جزع أظفار قد انقطع فرجعت فالتمست عقدي ، فحبسني ابتغاؤه ، فأقبل الذين يرحلون بي ، فاحتملوا هودجي ، فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب ، وهم يحسبون أني فيه ، وكان النساء إذ ذاك خفافا لم يثقلن ، ولم يغشهن اللحم ، وإنما يأكلن العلقة من الطعام ، فلم يستنكر القوم حين رفعوه ثقل الهودج ، فاحتملوه ، وكنت جارية حديثة السن ، فبعثوا الجمل وساروا ، فوجدت عقدي بعدما استمر الجيش ، فجئت منزلهم وليس فيه أحد ، فأقمت منزلي الذي كنت [ ص: 15 ] به ، وظننت أنهم سيفقدوني ، فيرجعون إلي ، فبينا أنا جالسة غلبتني عيناي فنمت .

                                                                                                                          وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني من وراء الجيش ، فأصبح عند منزلي ، فرأى سواد إنسان نائم ، وكان يراني قبل الحجاب ، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني ، فخمرت وجهي بجلبابي والله ما تكلمت بكلمة ، ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه حتى أناخ راحلته ، فوطئ يدها ، فركبتها ، فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعدما نزلوا معرسين في نحر الظهيرة ، فهلك من هلك .

                                                                                                                          وكان الذي تولى كبر الإفك عبد الله بن أبي بن سلول ، فقدمنا المدينة ، فاشتكيت بها شهرا ، والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك ويريبني في وجعي أني لا أرى من النبي صلى الله عليه وسلم اللطف الذي كنت أرى منه حين أمرض ، إنما يدخل فيسلم ثم يقول : كيف تيكم ؟ ولا أشعر بشيء من ذلك حتى نقهت ، فخرجت أنا وأم مسطح بنت أبي رهم قبل المناصع ، وكان متبرزنا لا نخرج إلا ليلا إلى ليل ، وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريبا من بيوتنا ، وأمرنا أمر العرب الأول في البرية أو في التبرز ، فأقبلت أنا وأم [ ص: 16 ] مسطح بنت أبي رهم نمشي ، فعثرت في مرطها ، فقالت : تعس مسطح ، فقلت لها : بئس ما قلت أتسبين رجلا شهد بدرا ؟ فقالت : يا هنتاه ، ألم تسمعي ما قالوا ؟ فأخبرتني بما يقول أهل الإفك ، فازددت مرضا على مرض .

                                                                                                                          فلما رجعت إلى بيتي دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : كيف تيكم ؟ فقلت : ائذن لي آتي أبوي ، قالت : وأنا حينئذ أريد أن أستيقن الخبر من قبلهما ، فأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتيت أبوي ، فقلت لأمي ما يتحدث به الناس ، فقالت : يا بنية ، هوني على نفسك الشأن ، فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها ، فقلت : سبحان الله ! لقد تحدث الناس بهذا ؟ قالت : نعم ، فبت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ، ولا أكتحل بنوم .

                                                                                                                          ثم أصبحت ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب ، وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي يستشيرهما في فراق أهله ، فأما أسامة ، فأشار عليه بالذي يعلم في نفسه من الود لهم ، فقال : أهلك يا رسول الله ، ولا نعلم والله إلا خيرا ، وأما علي ، فقال : يا رسول الله ، لم يضيق الله عليك ، والنساء سواها كثير ، وسل الجارية تصدقك ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة ، فقال : يا بريرة هل رأيت فيها شيئا ما يريبك ؟ فقالت : لا ، والذي بعثك بالحق إن رأيت منها [ ص: 17 ] أمرا أغمصه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن العجين ، فتأتي الداجن فتأكله .

                                                                                                                          فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من يومه ، فاستعذر من عبد الله بن أبي بن سلول ، فقال : من يعذرني من رجل بلغ أذاه في أهلي ، ووالله ما علمت على أهلي إلا خيرا ، وقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا وما كان يدخل على أهلي إلا معي ، فقام سعد بن معاذ ، فقال : يا رسول الله ، وأنا والله أعذرك منه ، إن كان من الأوس ضربنا عنقه ، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا فيه أمرك ، فقام سعد بن عبادة ، وكان قبل ذلك رجلا صالحا ، ولكن احتملته الحمية ، فقال : كذبت لعمر الله ، لا تقتله ولا تقدر على ذلك ، فقام أسيد بن حضير ، فقال : كذبت لعمر الله لنقتلنه ، فإنك منافق تجادل عن المنافقين ، فثار الحيان الأوس والخزرج حتى هموا ورسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر ، فجعل يخفضهم حتى سكتوا .

                                                                                                                          ومكثت يومي لا يرقأ لي دمع ، ولا أكتحل بنوم ، فأصبح عندي أبواي وقد بكيت ليلتي ويومي ، حتى أظن أن البكاء فالق كبدي ، قالت : فبينا هما جالسان عندي وأنا أبكي إذ استأذنت امرأة من الأنصار ، فأذنت لها فجلست تبكي معي ، فبينا نحن كذلك إذ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجلس ولم يجلس عندي من يوم قيل لي ما قيل قبلها ، وقد مكث شهرا لا يوحى إليه في شأني شيء ، قالت : [ ص: 18 ] فتشهد ، ثم قال : يا عائشة أما بعد ، فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا ، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله ، وإن كنت ألممت ، فاستغفري الله وتوبي إليه ، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه ، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته قلص دمعي حتى ما أحس منه بقطرة ، وقلت لأبي : أجب عني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت لأمي : أجيبي عني رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال ، قالت : والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، قالت : وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرا من القرآن ، فقلت : إي والله لقد علمت أنكم سمعتم ما تحدث الناس ، ووقر في أنفسكم وصدقتم به ، ولئن قلت لكم إني بريئة - والله يعلم أني بريئة - لا تصدقوني بذلك ، وإن اعترفت لكم بأمر - والله يعلم أني بريئة - لتصدقني ، والله ما أجد لي ولكم مثلا إلا أبا يوسف إذ قال : فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون ثم تحولت على فراشي وأنا أرجو أن يبرئني الله ، ولكن والله ما ظننت أن ينزل في شأني وحي ، ولأنا أحقر في نفسي من أن يتكلم بالقرآن في أمري ، ولكني كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم رؤيا تبرئني .

                                                                                                                          فوالله ما رام في مجلسه ، ولا خرج أحد من البيت حتى أنزل عليه ، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء حتى إنه لينحدر منه مثل الجمان من العرق في يوم شات ، فلما سري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 19 ] وهو يضحك ، فكان أول كلمة تكلم بها أن قال : يا عائشة ، احمدي الله فقد برأك الله ، فقالت لي أمي : قومي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت : لا والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله ، فأنزل الله تعالى : إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم الآيات ، فلما أنزل الله هذا في براءتي قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، وكان ينفق على مسطح لقرابته منه : والله لا أنفق على مسطح شيئا أبدا بعدما قال لعائشة ، فأنزل الله : ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة إلى قوله : والله غفور رحيم فقال أبو بكر : والله إني لأحب أن يغفر الله لي ، فرجع إلى مسطح بالذي كان يجري عليه ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل زينب بنت جحش عن أمري فقالت : يا رسول الله أحمي سمعي وبصري ، وكانت تساميني ، فعصمها الله بالورع
                                                                                                                          .

                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                          الخدمات العلمية