الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 270 ]

مسألة في الاستغفار [ ص: 272 ] قال الوليد: قلت للأوزاعي: ما الاستغفار؟ قال: تقول: أستغفر الله أستغفر الله.

فهذا حديث صحيح في تكرير الاستغفار ثلاثا دبر الصلاة، فتكرير الاستغفار في الصلاة أوكد، كما أنه [لما] سن تكرير التسبيح في الصلوات كان تكرير التسبيح في الركوع والسجود أوكد. وفي صحيح مسلم من حديث الأغر المزني- وكانت له صحبة- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم مئة مرة". وفيه من حديث عمرو بن مرة عن أبي بردة قال: سمعت الأغر- وكان من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يحدث ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أيها الناس! توبوا إلى الله، فإني أتوب إليه في اليوم مئة". قال الحميدي : وقد أخرجه البخاري في تاريخه من هذين الوجهين، ولم يخرجه في الجامع، وهو لاحق بشرطه فيه. وفي الصحيح أيضا: "إني لأستغفر الله وأتوب إليه أكثر من سبعين مرة".

وقد أمر أن يختم عمله الخاص والعام بالاستغفار، فكان الاستغفار نهاية أمره. وتارة يجمع بين التوحيد والاستغفار، فقال تعالى: فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات ، وقال: أنما [ ص: 274 ] إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه .

فهذان الأمران جماع الدين، كما يروى أن الشيطان قال: أهلكت بني آدم بالذنوب، وأهلكوني بلا إله إلا الله والاستغفار، فلما رأيت ذلك بثثت فيهم الأهواء، فهم يذنبون ولا يتوبون، لأنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. وقد قال تعالى: إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء .

فالتوحيد هو جماع الدين الذي هو أصله وفرعه ولبه، وهو الخير كله، والاستغفار يزيل الشر كله، فيحصل من هذين جميع الخير وزوال جميع الشر. وكل ما يصيب المؤمن من الشر فإنما هو بذنوبه.

والاستغفار يمحو الذنوب فيزيل العذاب، كما قال تعالى: وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون . وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يطلب من الله المغفرة في أول الصلاة في الاستفتاح، كما في حديث أبي هريرة الصحيح وحديث علي الصحيح في أول ما يكبر، ثم يطلب الاستغفار بعد التحميد إذا رفع رأسه، ويطلب الاستغفار في دعاء التشهد كما في حديث علي وغيره، ويطلب الاستغفار في الركوع [ ص: 275 ] والسجود كما في حديث عائشة الصحيح ، ورواه أبو داود والنسائي وابن ماجه. وروى مسلم وأبو داود عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في سجوده: "اللهم اغفر لي ذنبي كله، دقه وجله وأوله وآخره وعلانيته وسره".

فلم يبق حال من أحوال الصلاة ولا ركن من أركانها إلا استغفر الله فيه، فعلم أنه كان اهتمامه به أكثر من اهتمامه بسائر الأدعية. ويميز ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا استغفر لرجل كان ذلك سببا لوجوب الجنة له، مثل أن يستشهد، كما في حديث سلمة بن الأكوع . وكان استغفاره للرجل أعظم عندهم من جميع الأدعية له، كما في صحيح مسلم عن عبد الله بن سرجس قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وأكلت معه خبزا ولحما -أو قال: ثريدا- فقلت: يا رسول الله! غفر الله لك، قال: ولك. قال: فقلت له: أستغفر لك رسول الله؟ قال: نعم ولك، ثم تلا هذه الآية: واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات .

وهذا أيضا توكيد له، حيث أمره الله بالاستغفار للمؤمنين، وخص ذلك بسائر الأدعية. وكذلك أخبر عن ملائكته أنهم يستغفرون للمؤمنين، وذلك أن المغفرة مشروطة بالإيمان، فلا تكون إلا لأهل [ ص: 276 ] الإيمان، بخلاف العافية والرزق والهداية العامة، فإنها تحصل بدون الإيمان، فإن الكافر قد يهديه الله فيصير مؤمنا، وقد يعافيه ويرزقه مع كفره، وقد يجاب دعاؤه. والمغفرة إنما هي للمؤمنين، فهي النهاية. ولهذا قال في المنافقين استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ، وقال فيهم: سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم ، وقال: ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى ، وقال: قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله الآية . فأمرهم الله بالاقتداء بهم إلا في الاستغفار للمشركين.

وفي الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "استأذنت ربي في الاستغفار لأمي فلم يأذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي". وفي الصحيح أنه قال لأبي طالب: "لأستغفرن لك ما لم أنه عنك"، فأنزل الله: ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم . وفي [ ص: 277 ] الصحيح أنه صلى على ابن أبي وألبسه قميصه وتفل في فيه واستغفر له، ثم قال: "وماذا يغني عنه ذلك من الله؟ ".

وكذلك استغفر للذين اعتذروا إليه لما رجع من غزوة تبوك، ثم أنزل الله فيهم بعد ذلك ما أنزل، فلم ينفعهم ذلك .

فإذا كان استغفار الإنسان لغيره لا ينفعه إلا مع الإيمان، بخلاف الأدعية المروية في هذا الحديث من العافية والرزق والهداية والرحمة، إذا أريد بها رحمة الدنيا أو الرحمة من الدين تصيب الكافر، وأما إذا أريد بها أنه لا يعذب أو يدخل الجنة فهذا لا يصلح. بل استغفار الإنسان أهم من جميع الأدعية لوجهين:

أحدهما: أن استغفاره لنفسه يغفر له به جميع الذنوب إذا كان على وجه التوبة، حتى إن الكفار إذا استغفروا لأنفسهم نفعهم ذلك، وكان سبب نجاتهم من عذاب الدنيا. وعذاب الآخرة إنما ينجي منه الاستغفار مع الإيمان. وهذا أيضا من خصائص التوحيد، فإن المكلف لا ينفعه توحيد غيره عنه، ولا ينجيه ذلك من عذاب الله عز وجل، بل لا ينجيه إلا توحيد نفسه، ولا ينفعه مع عدم التوحيد الاستغفار عنه، بل لا ينفعه إلا استغفاره الذي تضمن توحيده وتوبته من الشرك. فصار الاستغفار مقرونا بالتوحيد من بداية، لا تقبل النيابة فيه ولا يهدى إلى الغير إلا إذا أتى هو به، فإذا كان هو من أهل ذلك نفعه حينئذ ما يريده [ ص: 278 ] غيره من ذلك، بخلاف الأعمال والأدعية التي تفعل عن الغير وتهدى له وإن لم يأت بأصلها.

وإنما كان الاستغفار هو النهاية من العبد لأن الذنب لازم لجميع بني آدم، وإنما كمال المؤمنين من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين في التوبة من الذنب والاستغفار، كما قال تعالى: إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا إلى آخر السورة . وقد أخبر تعالى أنه يبدل سيئات التائب حسنات، وأنه يفرح بتوبة العبد أشد فرح يقدر.

فالذنوب إذا كانت مغمورة بالحسنات لم يعاقب صاحبها بالنار، لكن يكون تأثيرها في تفاوت الدرجات، فأعلى الخلق منزلة العبد الذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وبذلك وصفه الرسول الذي قبله الذي دل عليه والطالبون للشفاعة منه، وجعل ذلك هو السبب في كونه يكون شفيع الخلائق، لأنه لما غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر لم يبق يحتاج إلى أن يشفع لنفسه ويستغفر، فأمكنه أن يشفع لغيره، بخلاف من يقول: نفسي نفسي، فإنه يكون محتاجا إلى الشفاعة حينئذ لنفسه ويستغفر لنفسه، فلا يشفع لغيره في هذا المقام، وإن كان يشفع بعد ذلك، فإن الله سبحانه لا بد أن يغفر جميع هذه الذنوب وما هو أعظم منها، لكن يتأخر ذلك عن مقام الشفاعة، بخلاف الذي غفر له ما [ ص: 279 ] تقدم من ذنبه وما تأخر قبل هذا المقام، فإنه سائر في مقام المغفرة. ولهذا قال الخليل -وهو أحد الرسل الكبار المطلوب منهم الشفاعة يومئذ-: والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين ، فالمغفرة التي رجاها تكون يوم الدين، وهي واقعة بعد شفاعة سيد ولد آدم، فإنه قبل ذلك يقول : إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، ويذكر خطيئته: نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى موسى.

وهذا كله مما يؤكد أمر الاستغفار ويبين أنه نهاية الأمر، وأن السائر فيه هو من سائر السابقين، فتكريره يوجب من ذلك ما لا يوجبه غيره. والله أعلم.

التالي السابق


الخدمات العلمية