الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء
مطلب : هل الأفضل الفقير الصابر أو الغني الشاكر ؟

( تنبيهات ) :

( الأول ) : اختلف العلماء رضي الله عنهم من أفضل ؟ الفقير الصابر أو الغني الشاكر ؟ ذهب قوم إلى تفضيل الغني ; لأن الغنى مقدرة والفقر عجز والقدرة أفضل من العجز . قال الماوردي : وهذا مذهب من غلب عليه حب النباهة . قلت وهو ظاهر اختيار الإمام الحافظ ابن الجوزي . قال في تبصرته : واعلم أن الغني إذا لم يشتغل بالغنى عن الله تعالى ، وكان ماله وقفا على مساعدة الفقراء وأعمال الخير كان أفضل من الفقير ، فإن غاية الفقير أن يكون متقيا لله تعالى ، فله ثواب صبره عن أغراضه ، ولا يتعدى فعله إلى النفع للغير ، ولكن لما كان الغالب في الغني أن يشتغل بماله عن الله تعالى ، ويمسكه عن الإنفاق ، وربما لم يتورع في كسبه ، وربما أطلق نفسه في شهواتها القاطعة عن الله تعالى فضل الفقير المحق عليه فإن همه أجمع .

وذهب آخرون إلى تفضيل الفقير ; لأنه تارك والغني ملابس ، وترك الدنيا أفضل من ملابستها . قال الماوردي : وهذا مذهب من غلب عليه حب [ ص: 545 ] السلامة . قلت : والسلامة لا يعادلها شيء . قال الإمام الوزير بن هبيرة : لو لم يكن في الفقر إلا أنه باب الرضا عن الله ، ولو لم يكن في الغنى ألا أنه باب التسخط على الله ; لأن الإنسان إذا رأى الفقير رضي عن الله في تقديره ، وإذا رأى الغني سخط بما هو عليه ، لكان ذلك كافيا في فضل الفقير على الغني ، انتهى .

وذهب آخرون إلى تفضيل المتوسط بين الأمرين بأن يخرج من حد الفقر إلى أدنى مراتب الغنى ليصل إلى فضيلة الأمرين . قال الماوردي : وهذا مذهب من يرى تفضيل الاعتدال ، وأن خيار الأمور أوساطها ، انتهى .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية روح الله روحه : الصواب في ذلك قوله تعالى { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } فإن استويا في التقوى استويا في الدرجة ، انتهى .

أقول : من تأمل السيرة النبوية وكون نبينا صلى الله عليه وسلم كان كثير الجوع ، بعيد الشبع ، يشد الحجر على بطنه ، وتوفي ودرعه مرهونة ، ورأى إعراضه عن الدنيا وزينتها والانهماك في لذاتها ، ونفض يديه من شهواتها ، وأن ذلك عن اختيار لا اضطرار ، علم وتحقق أن التقلل من الدنيا وزينتها أفضل وأكمل ، وأنا أتعجب من تفضيل الغني - وإن كان شاكرا - على الفقير الصابر ، وقد علمت أن الفقير يسلم من شدة الحساب . ويسبق الغني إلى الجنة بخمسمائة عام . وهل يختار الله لرسوله إلا أكمل الحالات . وهل يختار الرسول لنفسه إلا أفضل المقامات .

التالي السابق


الخدمات العلمية