الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 185 ] فصل : وهذا النوع من نمط " أسماء الله وأسماء كتابه وأسماء رسوله وأسماء دينه " قال الله تعالى : { قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى } وقال تعالى : { ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه } وقال الله تعالى : { هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم } { هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون } { هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم } فأسماؤه كلها متفقة في الدلالة على نفسه المقدسة ثم كل اسم يدل على معنى من صفاته . ليس هو المعنى الذي دل عليه الاسم الآخر ; فالعزيز يدل على نفسه مع عزته والخالق يدل على نفسه مع خلقه والرحيم يدل على نفسه مع رحمته ونفسه تستلزم جميع صفاته فصار كل اسم يدل على ذاته والصفة المختصة به بطريق المطابقة وعلى أحدهما بطريق التضمن وعلى الصفة الأخرى بطريق اللزوم . وهكذا " أسماء كتابه " القرآن والفرقان والكتاب والهدى والبيان والشفاء [ ص: 186 ] والنور ونحو ذلك هي بهذه المنزلة .

                وكذلك " أسماء رسوله " : محمد وأحمد والماحي والحاشر والمقفي ونبي الرحمة ونبي التوبة ونبي الملحمة كل اسم يدل على صفة من صفاته الممدوحة غير الصفة الأخرى وهكذا ما يثنى ذكره من القصص في القرآن كقصة موسى وغيرها ليس المقصود بها أن تكون سمرا ; بل المقصود بها أن تكون عبرا كما قال تعالى : { لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب } فالذي وقع شيء واحد وله صفات فيعبر عنه بعبارات متنوعة كل عبارة تدل على صفة من الصفات التي يعتبر بها المعتبرون وليس هذا من التكرير في شيء .

                وهكذا " أسماء دينه " الذي أمر الله به ورسوله يسمى إيمانا وبرا وتقوى وخيرا ودينا وعملا صالحا وصراطا مستقيما ونحو ذلك ; وهو في نفسه واحد لكن كل اسم يدل على صفة ليست هي الصفة التي يدل عليها الآخر وتكون تلك الصفة هي الأصل في اللفظ والباقي كان تابعا لها لازما لها ثم صارت دالة عليه بالتضمن فإن " الإيمان " أصله الإيمان الذي في القلب ولا بد فيه من " شيئين " : تصديق بالقلب وإقراره ومعرفته . ويقال لهذا : قول القلب . قال " الجنيد بن محمد " : التوحيد : قول القلب . والتوكل : عمل القلب فلا بد فيه من قول القلب وعمله ; ثم قول البدن وعمله ولا بد فيه من عمل القلب مثل حب الله ورسوله وخشية الله وحب ما يحبه الله ورسوله وبغض ما يبغضه الله ورسوله وإخلاص العمل لله وحده وتوكل القلب على الله وحده وغير ذلك من أعمال القلوب التي أوجبها الله ورسوله وجعلها من الإيمان .

                [ ص: 187 ] ثم القلب هو الأصل فإذا كان فيه معرفة وإرادة سرى ذلك إلى البدن بالضرورة لا يمكن أن يتخلف البدن عما يريده القلب ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : " { ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد ألا وهي القلب } " . وقال أبو هريرة : القلب ملك والأعضاء جنوده فإذا طاب الملك طابت جنوده وإذا خبث الملك خبثت جنوده وقول أبي هريرة تقريب . وقول النبي صلى الله عليه وسلم أحسن بيانا فإن الملك وإن كان صالحا فالجند لهم اختيار قد يعصون به ملكهم وبالعكس فيكون فيهم صلاح مع فساده أو فساد مع صلاحه ; بخلاف القلب فإن الجسد تابع له لا يخرج عن إرادته قط كما قال النبي صلى الله عليه وسلم " { إذا صلحت صلح لها سائر الجسد وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد } " . فإذا كان القلب صالحا بما فيه من الإيمان علما وعملا قلبيا لزم ضرورة صلاح الجسد بالقول الظاهر والعمل بالإيمان المطلق كما قال أئمة أهل الحديث : قول وعمل قول باطن وظاهر وعمل باطن وظاهر والظاهر تابع للباطن لازم له متى صلح الباطن صلح الظاهر وإذا فسد فسد ; ولهذا قال من قال من الصحابة عن المصلي العابث : لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه فلا بد في إيمان القلب من حب الله ورسوله وأن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما قال الله تعالى : { ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله } فوصف الذين آمنوا بأنهم أشد حبا لله من المشركين لأندادهم . وفي الآية " قولان " : قيل : يحبونهم كحب المؤمنين الله والذين آمنوا أشد حبا لله منهم لأوثانهم .

                وقيل : يحبونهم كما يحبون الله والذين آمنوا أشد حبا لله منهم وهذا هو الصواب ; والأول قول متناقض وهو باطل فإن المشركين لا يحبون الأنداد مثل محبة المؤمنين لله وتستلزم الإرادة والإرادة التامة مع القدرة تستلزم الفعل فيمتنع أن يكون الإنسان محبا لله ورسوله ; مريدا لما يحبه الله ورسوله إرادة جازمة مع قدرته على ذلك وهو لا يفعله فإذا لم يتكلم الإنسان بالإيمان مع قدرته دل على أنه ليس في قلبه الإيمان الواجب الذي فرضه الله عليه . ومن هنا يظهر خطأ قول " جهم بن صفوان " ومن اتبعه حيث ظنوا أن الإيمان مجرد تصديق القلب وعلمه لم يجعلوا أعمال القلب من الإيمان وظنوا أنه قد يكون الإنسان مؤمنا كامل الإيمان بقلبه وهو مع هذا يسب الله ورسوله ويعادي الله ورسوله ويعادي أولياء الله ويوالي أعداء الله ويقتل الأنبياء ويهدم المساجد ويهين المصاحف ويكرم الكفار غاية الكرامة ويهين المؤمنين غاية الإهانة قالوا : وهذه كلها معاص لا تنافي الإيمان الذي في قلبه بل يفعل هذا وهو في الباطن عند الله مؤمن قالوا : وإنما ثبت له في الدنيا أحكام الكفار لأن هذه الأقوال أمارة على الكفر ليحكم بالظاهر كما يحكم [ ص: 189 ] بالإقرار والشهود وإن كان الباطن قد يكون بخلاف ما أقر به وبخلاف ما شهد به الشهود فإذا أورد عليهم الكتاب والسنة والإجماع على أن الواحد من هؤلاء كافر في نفس الأمر معذب في الآخرة قالوا : فهذا دليل على انتفاء التصديق والعلم من قلبه فالكفر عندهم شيء واحد وهو الجهل والإيمان شيء واحد وهو العلم أو تكذيب القلب وتصديقه فإنهم متنازعون هل تصديق القلب شيء غير العلم أو هو هو ؟ . وهذا القول مع أنه أفسد قول قيل في " الإيمان " فقد ذهب إليه كثير من " أهل الكلام المرجئة " . وقد كفر السلف - كوكيع بن الجراح وأحمد بن حنبل وأبي عبيد وغيرهم - من يقول بهذا القول . وقالوا : إبليس كافر بنص القرآن وإنما كفره باستكباره وامتناعه عن السجود لآدم لا لكونه كذب خبرا . وكذلك فرعون وقومه قال الله تعالى فيهم : { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا } وقال موسى عليه السلام لفرعون : { لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر } بعد قوله : { ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات فاسأل بني إسرائيل إذ جاءهم فقال له فرعون إني لأظنك يا موسى مسحورا } { قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر وإني لأظنك يا فرعون مثبورا } . فموسى وهو الصادق المصدوق يقول : { لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر } .

                فدل على أن فرعون كان عالما بأن الله أنزل الآيات وهو [ ص: 190 ] من أكبر خلق الله عنادا وبغيا لفساد إرادته وقصده لا لعدم علمه . قال تعالى : { إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين } وقال تعالى : { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا } . وكذلك اليهود الذين قال الله فيهم : { الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم } . وكذلك كثير من المشركين الذين قال الله فيهم : { فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون } . فهؤلاء غلطوا في " أصلين " : ( أحدهما : ظنهم أن الإيمان مجرد تصديق وعلم فقط ليس معه عمل وحال وحركة وإرادة ومحبة وخشية في القلب ; وهذا من أعظم غلط المرجئة مطلقا فإن " أعمال القلوب " التي يسميها بعض الصوفية أحوالا ومقامات أو منازل السائرين إلى الله أو مقامات العارفين أو غير ذلك كل ما فيها مما فرضه الله ورسوله فهو من الإيمان الواجب وفيها ما أحبه ولم يفرضه فهو من الإيمان المستحب فالأول لا بد لكل مؤمن منه ومن اقتصر عليه فهو من الأبرار أصحاب اليمين ومن فعله وفعل الثاني كان من المقربين السابقين وذلك مثل حب الله ورسوله بل أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما بل أن يكون الله ورسوله والجهاد في سبيله أحب إليه من أهله وماله ومثل خشية الله وحده دون خشية المخلوقين ورجاء الله وحده دون رجاء المخلوقين والتوكل على الله وحده دون المخلوقين والإنابة إليه [ ص: 191 ] مع خشيته كما قال تعالى : { هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ } { من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب } ومثل الحب في الله والبغض في الله والموالاة لله والمعاداة لله .

                و ( الثاني : ظنهم أن كل من حكم الشارع بأنه كافر مخلد في النار فإنما ذاك لأنه لم يكن في قلبه شيء من العلم والتصديق . وهذا أمر خالفوا به الحس والعقل والشرع وما أجمع عليه طوائف بني آدم السليمي الفطرة وجماهير النظار ; فإن الإنسان قد يعرف أن الحق مع غيره ومع هذا يجحد ذلك لحسده إياه أو لطلب علوه عليه أو لهوى النفس ويحمله ذلك الهوى على أن يعتدي عليه ويرد ما يقول بكل طريق وهو في قلبه يعلم أن الحق معه وعامة من كذب الرسل علموا أن الحق معهم وأنهم صادقون لكن إما لحسدهم وإما لإرادتهم العلو والرياسة وإما لحبهم دينهم الذي كانوا عليه وما يحصل لهم به من الأغراض كأموال ورياسة وصداقة أقوام وغير ذلك فيرون في اتباع الرسل ترك الأهواء المحبوبة إليهم أو حصول أمور مكروهة إليهم فيكذبونهم ويعادونهم فيكونون من أكفر الناس كإبليس وفرعون مع علمهم بأنهم على الباطل والرسل على الحق . ولهذا لا يذكر الكفار حجة صحيحة تقدح في صدق الرسل إنما يعتمدون على مخالفة أهوائهم كقولهم لنوح : { أنؤمن لك واتبعك الأرذلون } ومعلوم أن اتباع الأرذلين له لا يقدح في صدقه ; لكن كرهوا مشاركة أولئك [ ص: 192 ] كما طلب المشركون من النبي صلى الله عليه وسلم إبعاد الضعفاء كسعد بن أبي وقاص وابن مسعود وخباب بن الأرت وعمار بن ياسر وبلال ونحوهم وكان ذلك بمكة قبل أن يكون في الصحابة أهل الصفة فأنزل الله تبارك وتعالى : { ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين } { وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين } . ومثل قول فرعون : { أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون } وقول فرعون : { ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين } { وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين } ومثل قول مشركي العرب : { إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا } قال الله تعالى : { أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا } ومثل قول قوم شعيب له : { أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء } ومثل قول عامة المشركين : { إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون } .

                وهذه الأمور وأمثالها ليست حججا تقدح في صدق الرسل بل تبين أنها تخالف إرادتهم وأهواءهم وعاداتهم فلذلك لم يتبعوهم وهؤلاء كلهم كفار بل أبو طالب وغيره كانوا يحبون النبي صلى الله عليه وسلم ويحبون علو كلمته وليس عندهم حسد له وكانوا يعلمون صدقه ولكن كانوا يعلمون أن في [ ص: 193 ] متابعته فراق دين آبائهم وذم قريش لهم فما احتملت نفوسهم ترك تلك العادة واحتمال هذا الذم فلم يتركوا الإيمان لعدم العلم بصدق الإيمان به ; بل لهوى النفس فكيف يقال : إن كل كافر إنما كفر لعدم علمه بالله . ولم يكف الجهمية أن جعلوا كل كافر جاهلا بالحق حتى قالوا : هو لا يعرف أن الله موجود حق والكفر عندهم ليس هو الجهل بأي حق كان ; بل الجهل بهذا الحق المعين . ونحن والناس كلهم يرون خلقا من الكفار يعرفون في الباطن أن دين الإسلام حق ويذكرون ما يمنعهم من الإيمان إما معاداة أهلهم وإما مال يحصل لهم من جهتهم يقطعونه عنهم وإما خوفهم إذا آمنوا أن لا يكون لهم حرمة عند المسلمين كحرمتهم في دينهم وأمثال ذلك من أغراضهم التي يبينون أنها المانعة لهم من الإيمان مع علمهم بأن دين الإسلام حق ودينهم باطل . وهذا موجود في جميع الأمور التي هي حق يوجد من يعرف بقلبه أنها حق وهو في الظاهر يجحد ذلك ويعادي أهله لظنه أن ذلك يجلب له منفعة ويدفع عنه مضرة . قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين } { فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين } { ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين } .

                [ ص: 194 ] والمفسرون متفقون على أنها نزلت بسبب قوم ممن كان يظهر الإسلام وفي قلبه مرض خاف أن يغلب أهل الإسلام فيوالي الكفار من اليهود والنصارى وغيرهم للخوف الذي في قلوبهم ; لا لاعتقادهم أن محمدا كاذب واليهود والنصارى صادقون وأشهر النقول في ذلك { أن عبادة بن الصامت قال : يا رسول الله إن لي موالي من اليهود وإني أبرأ إلى الله من ولاية يهود فقال : عبد الله بن أبي : لكني رجل أخاف الدوائر ولا أبرأ من ولاية يهود فنزلت هذه الآية } .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية