الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

وكتب إلى ملك عمان كتابا وبعثه مع عمرو بن العاص : ( بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبد الله إلى جيفر وعبد ابني الجلندى ، سلام على من اتبع الهدى ، أما بعد : فإني أدعوكما بدعاية الإسلام أسلما تسلما ، فإني رسول الله إلى الناس كافة ؛ لأنذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين ، فإنكما إن أقررتما بالإسلام وليتكما ، وإن أبيتما أن تقرا بالإسلام ، فإن ملككما زائل عنكما ، وخيلي تحل بساحتكما ، وتظهر نبوتي على ملككما ) .

وكتب أبي بن كعب وختم الكتاب .

قال عمرو : فخرجت حتى انتهيت إلى عمان فلما قدمتها ، عمدت إلى عبد ، وكان أحلم الرجلين وأسهلهما خلقا ، فقلت : إني رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليك وإلى أخيك ، فقال : أخي المقدم علي بالسن والملك ، وأنا أوصلك إليه حتى يقرأ كتابك ، ثم قال : وما تدعو إليه ؟ قلت : أدعوك إلى الله وحده لا شريك له ، وتخلع ما عبد من دونه ، وتشهد أن محمدا عبده ورسوله .

قال : يا عمرو إنك ابن سيد قومك فكيف صنع أبوك ، فإن لنا فيه قدوة ؟ قلت مات ولم يؤمن [ ص: 606 ] بمحمد صلى الله عليه وسلم ، ووددت أنه كان أسلم وصدق به ، وقد كنت أنا على مثل رأيه حتى هداني الله للإسلام ، قال : فمتى تبعته ؟ قلت : قريبا فسألني أين كان إسلامك ؟ قلت : عند النجاشي ، وأخبرته أن النجاشي قد أسلم ، قال : فكيف صنع قومه بملكه ؟ فقلت : أقروه واتبعوه ، قال : والأساقفة والرهبان تبعوه ؟ قلت : نعم . قال : انظر يا عمرو ما تقول إنه ليس من خصلة في رجل أفضح له من الكذب ، قلته : ما كذبت وما نستحله في ديننا ، ثم قال : ما أرى هرقل علم بإسلام النجاشي ، قلت : بلى .

قال : بأي شيء علمت ذلك ؟

قلت : كان النجاشي يخرج له خرجا فلما أسلم وصدق بمحمد صلى الله عليه وسلم ، قال : لا والله ، لو سألني درهما واحدا ما أعطيته ، فبلغ هرقل قوله ، فقال له : يناق أخوه : أتدع عبدك لا يخرج لك خرجا ويدين دينا محدثا ؟

قال هرقل : رجل رغب في دين فاختاره لنفسه ما أصنع به والله لولا الضن بملكي لصنعت كما صنع ، قال : انظر ما تقول يا عمرو ، قلت : والله صدقتك . قال عبد : فأخبرني ما الذي يأمر به وينهى عنه ؟ قلت : يأمر بطاعة الله عز وجل وينهى عن معصيته ، ويأمر بالبر وصلة الرحم ، وينهى عن الظلم والعدوان وعن الزنى وعن الخمر وعن عبادة الحجر والوثن والصليب .

قال : ما أحسن هذا الذي يدعو إليه لو كان أخي يتابعني عليه لركبنا حتى نؤمن بمحمد ونصدق به ، ولكن أخي أضن بملكه من أن يدعه ويصير ذنبا ، قلت : إنه إن أسلم ، ملكه رسول الله صلى الله عليه وسلم على قومه فأخذ الصدقة من غنيهم ، فردها على فقيرهم . قال : إن هذا لخلق حسن وما الصدقة ؟ فأخبرته بما فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصدقات في الأموال حتى انتهيت إلى الإبل .

قال يا عمرو : وتؤخذ من سوائم مواشينا التي ترعى الشجر وترد المياه ؟ فقلت : نعم . فقال : والله ما أرى قومي في بعد دارهم وكثرة عددهم يطيعون بهذا ، قال : فمكثت ببابه أياما وهو يصل إلى أخيه ، فيخبره كل خبري ، ثم إنه دعاني يوما ، فدخلت عليه ، فأخذ أعوانه بضبعي ، فقال : دعوه ، فأرسلت فذهبت لأجلس فأبوا أن يدعوني أجلس فنظرت إليه ، فقال : تكلم بحاجتك فدفعت إليه الكتاب مختوما ففض [ ص: 607 ] خاتمه وقرأ حتى انتهى إلى آخره ثم دفعه إلى أخيه فقرأه مثل قراءته ، إلا أني رأيت أخاه أرق منه ، قال : ألا تخبرني عن قريش كيف صنعت ؟ فقلت : تبعوه إما راغب في الدين وإما مقهور بالسيف .

قال ومن معه ؟ قلت : الناس قد رغبوا في الإسلام ، واختاروه على غيره وعرفوا بعقولهم مع هدى الله إياهم أنهم كانوا في ضلال ، فما أعلم أحدا بقي غيرك في هذه الحرجة ، وأنت إن لم تسلم اليوم وتتبعه يوطئك الخيل ، ويبيد خضراءك ، فأسلم تسلم ، ويستعملك على قومك ، ولا تدخل عليك الخيل والرجال .

قال : دعني يومي هذا وارجع إلي غدا فرجعت إلى أخيه ، فقال : يا عمرو إني لأرجو أن يسلم إن لم يضن بملكه ، حتى إذا كان الغد أتيت إليه فأبى أن يأذن لي فانصرفت إلى أخيه ، فأخبرته أني لم أصل إليه ، فأوصلني إليه فقال : إني فكرت فيما دعوتني إليه ، فإذا أنا أضعف العرب إن ملكت رجلا ما في يدي وهو لا تبلغ خيله هاهنا ، وإن بلغت خيله ألفت قتالا ليس كقتال من لاقى .

قلت : وأنا خارج غدا ، فلما أيقن بمخرجي ، خلا به أخوه ، فقال : ما نحن فيما قد ظهر عليه ، وكل من أرسل إليه قد أجابه ، فأصبح فأرسل إلي فأجاب إلى الإسلام هو وأخوه جميعا وصدقا النبي صلى الله عليه وسلم وخليا بيني وبين الصدقة وبين الحكم فيما بينهم ، وكانا لي عونا على من خالفني .

التالي السابق


الخدمات العلمية