الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 76 ] أكبر بلية أصيب بها المسلمون هي فتنة التقليد

وانظر -إن كنت ممن يعتبر- ما ابتليت به هذه الأمة من التقليد للأموات في دين الله حتى صارت كل طائفة تعمل في جميع مسائل الدين بقول عالم من علماء المسلمين، ولا تقبل قول غيره، ولا ترضى به.

وليتها وقفت عند عدم القبول والرضاء، لكنها تجاوزت ذلك إلى الحط على سائر علماء المسلمين، والوضع من شأنهم، وتضليلهم، وتبديعهم، والتنفير عنهم.

ثم تجاوزوا ذلك إلى التفسيق والتكفير، ثم زاد الشر، حتى صار أهل كل مذهب كأهل ملة مستقلة، لهم نبي مستقل، وهو ذلك العالم الذي قلدوه، فليس الشرع إلا ما قال به دون غيره.

وبالغوا وغلوا، فجعلوا قوله مقدما على قول الله ورسوله، وهل بعد هذه الفتنة والمحنة شيء حق الفتن والمحن.

فإن أنكرت هذا، فهؤلاء المقلدون على ظهر البسيطة، قد ملؤوا الأقطار الإسلامية، فاعمد إلى أهل كل مذهب، وانظر إلى مسألة من مسائل مذهبهم، هي مخالفة لكتاب الله، أو لسنة رسوله، ثم أرشدهم إلى الرجوع عنها إلى ما قاله الله ورسوله، وانظر بماذا يجيبونك؟

فما أظنك تنجو من شرهم، ولا تأمن من مضرتهم، وقد يستحلون لذلك دمك، ومالك، وأورعهم يستحل عرضك وعقوبتك. وهذا يكفيك.

وإن كان لك فطرة سليمة، وفكرة مستقيمة، فانظر كيف خصوا بعض علماء المسلمين، واقتدوا بهم في مسائل الدين، ورفضوا الباقين، بل جاوزوا هذا إلى أن الإجماع ينعقد بأربعة من علماء هذه الأمة، وأن الحجة قائمة بهم، مع أن في عصر كل واحد منهم من هو أكثر علما منه، فضلا عن العصر المتقدم على عصره، والعصر المتأخر عن عصره، وهذا يعرفه كل من يعرف أحوال الناس.

ثم تجاوزوا في ذلك إلى أنه لا اجتهاد لغيرهم، بل هو مقصور عليهم، فكأن [ ص: 77 ] هذه الشريعة كانت لهم، لا حظ لغيرهم فيها، ولم يتفضل الله على عباده بما تفضل عليهم.

وكل عاقل يعلم أن هذه المزايا التي جعلوها لهؤلاء الأئمة -رحمهم الله تعالى- إن كانت باعتبار كثرة علمهم، وزيادة على علم غيرهم، فهذا مدفوع عند كل من له اطلاع على أحوالهم وأحوال غيرهم، فإن في أتباع كل واحد منهم من هو أعلم منه، لا ينكر هذا إلا مكابر أو جاهل، فكيف بمن لم يكن من أتباعهم من المعاصرين لهم والمتقدمين عليهم، والمتأخرين عنهم؟!

وإن كانت تلك المزايا بكثرة الورع والعبادة، فالأمر كما تقدم; فإن في معاصريهم، والمتقدمين عليهم، والمتأخرين عنهم من هو أكثر عبادة وورعا منهم، لا ينكر هذا إلا من لا يعرف تراجم الناس بكتب التواريخ.

وإن كانت تلك المزايا بتقدم عصورهم، فالصحابة -رضي الله عنهم- والتابعون أقدم منهم عصرا بلا خلاف، وهم أحق بهذه المزايا ممن بعدهم; لحديث: "خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم".

وإن كانت تلك المزايا لأمر عقلي، فما هو؟ أو لأمر شرعي، فأين هو؟

ولا ننكر أن الله قد جعلهم بمحل من العلم والورع، وصلابة الدين، وأنهم من أهل السبق في الفضائل والفواضل، ولكن الشأن في المتعصب لهم من أتباعهم القائل: إنه لا يجوز تقليد غيرهم، ولا يعتد بخلافه إن خالف، ولا يجوز لأحد من علماء المسلمين أن يخرج عن تقليدهم، وإن كان عارفا بكتاب الله وسنة رسوله، قادرا على العمل بما فيهما، متمكنا من استخراج المسائل الشرعية منهما.

فلم يكن مقصودنا إلا التعجب لمن كان له عقل صحيح، وفكر رجيح، وتهوين الأمر عليه فيما نحن بصدده من الكلام على ما يفعله المعتقدون [ ص: 78 ] للأموات، وأنه لا يغتر العاقل بالكثرة، وطول المهلة مع الغفلة، فإن ذلك لو كان دليلا على الحق لكان ما زعمه المقلدون المذكورون حقا، ولكان ما يفعله المعتقدون للأموات حقا.

وهذا عارض من القول، أوردناه للتمثيل، ولم يكن من مقصودنا.

التالي السابق


الخدمات العلمية