الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 8221 ) مسألة : قال أبو القاسم رحمه الله تعالى : ( ولا يولى قاض حتى يكون بالغا ، عاقلا ، مسلما ، حرا ، عدلا ، عالما ، فقيها ، ورعا ) وجملته أنه يشترط في القاضي ثلاثة شروط ; أحدها ، الكمال ، وهو نوعان ; كمال الأحكام ، وكمال الخلقة ، أما كمال الأحكام فيعتبر في أربعة أشياء ; أن يكون بالغا عاقلا حرا ذكرا .

                                                                                                                                            وحكي عن ابن جرير أنه لا تشترط الذكورية ; لأن المرأة يجوز أن تكون مفتية ، فيجوز أن تكون قاضية . وقال أبو حنيفة : يجوز أن تكون قاضية في غير الحدود ; لأنه يجوز أن تكون شاهدة فيه . ولنا ، قول النبي صلى الله عليه وسلم : { ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة } . ولأن القاضي يحضر محافل الخصوم والرجال ، ويحتاج فيه إلى كمال الرأي وتمام العقل والفطنة ، والمرأة ناقصة العقل ، قليلة الرأي ، ليست أهلا للحضور في محافل الرجال ، ولا تقبل شهادتها ، ولو كان معها ألف امرأة مثلها ، ما لم يكن معهن رجل ، وقد نبه الله تعالى على ضلالهن ونسيانهن بقوله تعالى { أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى } ولا تصلح للإمامة العظمى ، ولا لتولية البلدان ; ولهذا لم يول النبي صلى الله عليه وسلم ولا أحد من خلفائه ، ولا من بعدهم ، امرأة قضاء ولا ولاية بلد ، فيما بلغنا ، ولو جاز ذلك لم يخل منه جميع الزمان غالبا .

                                                                                                                                            وأما كمال الخلقة ، فأن يكون متكلما سميعا بصيرا ; لأن الأخرس لا يمكنه النطق بالحكم ، ولا يفهم جميع الناس إشارته ، والأصم لا يسمع قول الخصمين ، والأعمى لا يعرف المدعي من المدعى عليه ، والمقر من المقر له ، والشاهد من [ ص: 93 ] المشهود له .

                                                                                                                                            وقال بعض أصحاب الشافعي : يجوز أن يكون أعمى ; لأن شعيبا كان أعمى . ولهم في الأخرس الذي تفهم إشارته وجهان . ولنا ، أن هذه الحواس تؤثر في الشهادة ، فيمنع فقدها ولاية القضاء كالسمع ; وهذا لأن منصب الشهادة دون منصب القضاء ، والشاهد يشهد في أشياء يسيرة يحتاج إليه فيها ، وربما أحاط بحقيقة علمها ، والقاضي ولايته عامة ، ويحكم في قضايا الناس عامة ، فإذا لم يقبل منه الشهادة ، فالقضاء أولى ، وما ذكروه عن شعيب فلا نسلم فيه ، فإنه لم يثبت أنه كان أعمى ، ولو ثبت فيه ذلك ، فلا يلزم هاهنا ، فإن شعيبا عليه السلام ، كان من آمن معه من الناس قليلا ، وربما لا يحتاجون إلى حكم بينهم لقلتهم وتناصفهم ، فلا يكون حجة في مسألتنا .

                                                                                                                                            الشرط الثاني ، العدالة ، فلا يجوز تولية فاسق ، ولا من فيه نقص يمنع الشهادة ، وسنذكر ذلك في الشهادة ، إن شاء الله - تعالى .

                                                                                                                                            وحكي عن الأصم ، أنه قال : يجوز أن يكون القاضي فاسقا ; لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { سيكون بعدي أمراء يؤخرون الصلاة عن أوقاتها ، فصلوها لوقتها ، واجعلوا صلاتكم معهم سبحة } . ولنا ، قول الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا } . فأمر بالتبين عند قول الفاسق ، ولا يجوز أن يكون الحاكم ممن لا يقبل قوله ، ويجب التبين عند حكمه ; ولأن الفاسق لا يجوز أن يكون شاهدا ، فلئلا يكون قاضيا أولى .

                                                                                                                                            فأما الخبر فأخبر بوقوع كونهم أمراء ، لا بمشروعيته ، والنزاع في صحة توليته ، لا في وجودها .

                                                                                                                                            الشرط الثالث ، أن يكون من أهل الاجتهاد . وبهذا قال مالك والشافعي ، وبعض الحنفية . وقال بعضهم : يجوز أن يكون عاميا فيحكم بالتقليد ; لأن الغرض منه فصل الخصائم ، فإذا أمكنه ذلك بالتقليد جاز ، كما يحكم بقول المقومين . ولنا ، قول الله تعالى : { وأن احكم بينهم بما أنزل الله } . ولم يقل بالتقليد ، وقال : { لتحكم بين الناس بما أراك الله } . وقال : { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } .

                                                                                                                                            وروى بريدة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : { القضاة ثلاثة ; اثنان في النار وواحد في الجنة ، رجل علم الحق فقضى به ، فهو في الجنة ، ورجل ، قضى للناس على جهل ، فهو في النار ، ورجل جار في الحكم ، فهو في النار } . رواه ابن ماجه . والعامي يقضي على الجهل ، ولأن الحكم آكد من الفتيا ; لأنه فتيا وإلزام ، ثم المفتي لا يجوز أن يكون عاميا مقلدا ، فالحكم أولى .

                                                                                                                                            فإن قيل : فالمفتي يجوز أن يخبر بما سمع . قلنا : نعم . إلا أنه لا يكون مفتيا في تلك الحال ، وإنما هو مخبر ، فيحتاج أن يخبر عن رجل بعينه من أهل الاجتهاد فيكون معمولا بخبره لا بفتياه ، ويخالف قول المقومين ; لأن ذلك لا يمكن الحاكم معرفته بنفسه ، بخلاف الحكم .

                                                                                                                                            [ ص: 94 ] إذا ثبت هذا ، فمن شرط الاجتهاد معرفة ستة أشياء ; الكتاب ، والسنة ، والإجماع ، والاختلاف ، والقياس ، ولسان العرب . أما الكتاب ، فيحتاج أن يعرف منه عشرة أشياء ; الخاص ، والعام ، والمطلق ، والمقيد ، والمحكم ، والمتشابه ، والمجمل ، والمفسر ، والناسخ ، والمنسوخ في الآيات المتعلقة بالأحكام ، وذلك نحو خمسمائة ، ولا يلزمه معرفة سائر القرآن .

                                                                                                                                            فأما السنة ، فيحتاج إلى معرفة ما يتعلق منها بالأحكام دون سائر الأخبار ، من ذكر الجنة والنار والرقائق ، ويحتاج أن يعرف منها ما يعرف من الكتاب ، ويزيد معرفة التواتر ، والآحاد ، والمرسل ، والمتصل ، والمسند ، والمنقطع ، والصحيح ، والضعيف ، ويحتاج إلى معرفة ما أجمع عليه ، وما اختلف فيه ، ومعرفة القياس ، وشروطه ، وأنواعه ، وكيفية استنباطه الأحكام ، ومعرفة لسان العرب فيما يتعلق بما ذكر ; ليتعرف به استنباط الأحكام من أصناف علوم الكتاب والسنة ، وقد نص أحمد على اشتراط ذلك للفتيا ، والحكم في معناه .

                                                                                                                                            فإن قيل : هذه شروط لا تجتمع ، فكيف يجوز اشتراطها ؟ . قلنا : ليس من شرطه أن يكون محيطا بهذه العلوم إحاطة تجمع أقصاها ، وإنما يحتاج إلى أن يعرف من ذلك ما يتعلق بالأحكام من الكتاب والسنة ولسان العرب ، ولا أن يحيط بجميع الأخبار الواردة في هذا ، فقد كان أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب ، خليفتا رسول الله صلى الله عليه وسلم ووزيراه ، وخير الناس بعده ، في حال إمامتهما يسألان عن الحكم فلا يعرفان ما فيه من السنة ، حتى يسألا الناس فيخبرا { ، فسئل أبو بكر عن ميراث الجدة ، فقال : ما لك في كتاب الله شيء ، ولا أعلم لك في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا ، ولكن ارجعي حتى أسأل الناس . ثم قام فقال : أنشد الله من يعلم قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجدة ؟ فقام المغيرة بن شعبة ، فقال : أشهد أن رسول الله أعطاها السدس . وسأل عمر عن إملاص المرأة ، فأخبره المغيرة بن شعبة أن النبي قضى فيه بغرة } .

                                                                                                                                            ولا يشترط معرفة المسائل التي فرعها المجتهدون في كتبهم ، فإن هذه فروع فرعها الفقهاء بعد حيازة منصب الاجتهاد ، فلا تكون شرطا له وهو سابق عليها .

                                                                                                                                            وليس من شرط الاجتهاد في مسألة أن يكون مجتهدا في كل المسائل ، بل من عرف أدلة مسألة ، وما يتعلق بها ، فهو مجتهد فيها ، وإن جهل غيرها ، كمن يعرف الفرائض وأصولها ، ليس من شرط اجتهاده فيها معرفته بالبيع ، ولذلك ما من إمام إلا وقد توقف في مسائل . وقيل : من يجيب في كل مسألة فهو مجنون ، وإذا ترك العالم : لا أدري . أصيبت مقاتله .

                                                                                                                                            وحكي أن مالكا سئل عن أربعين مسألة ، فقال في ست وثلاثين منها : لا أدري . ولم يخرجه ذلك عن كونه مجتهدا . وإنما المعتبر أصول هذه الأمور ، وهو مجموع مدون في فروع الفقه وأصوله ، فمن عرف ذلك ، ورزق فهمه ، كان مجتهدا ، له الفتيا وولاية الحكم إذا وليه . والله أعلم .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية