الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 8225 ) فصل : وإن ولى الإمام رجلا القضاء ، فإن كانت ولايته في غير بلده ، فأراد السير إلى بلاد ولايته ، بحث عن قوم من أهل ذلك البلد ليسألهم عنه ، ويتعرف منهم ما يحتاج إلى معرفته ، فإن لم يجد ، سأل في طريقه ، فإن لم يجد ، سأل إذا دخل البلد عن أهله ، ومن به من العلماء والفضلاء وأهل العدالة والستر ، وسائر ما يحتاج إلى معرفته ، وإذا قرب من البلد ، بعث من يعلمهم بقدومه ليتلقوه ، ويجعل قدومه يوم الخميس إن أمكنه ; لأن النبي كان إذا قدم من سفر ، قدم يوم الخميس ، ثم يقصد الجامع ، فيصلي فيه ركعتين ، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل إذا دخل المدينة ، ويسأل الله - تعالى التوفيق والعصمة والمعونة ، وأن يجعل عمله صالحا ، ويجعله لوجهه خالصا ، ولا يجعل لأحد فيه شيئا ، ويفوض أمره إلى الله تعالى ، ويتوكل عليه ، ويأمر مناديه فينادي في البلد ، أن فلانا قدم عليكم قاضيا ، فاجتمعوا لقراءة عهده ، وقت كذا وكذا .

                                                                                                                                            وينصرف إلى منزله الذي قد أعد له ، وينبغي أن يكون في وسط البلد ; ليتساوى أهل المدينة فيه ، ولا يشق على بعضهم قصده ، فإذا اجتمعوا ، أمر بعهده فقرئ عليهم ليعلموا التولية ، ويأتوا إليه ، ويعد الناس يوما يجلس فيه للقضاء ، ثم ينصرف إلى منزله .

                                                                                                                                            وأول ما يبدأ فيه من أمر الحكم ، أن يبعث إلى الحاكم المعزول فيأخذ منه ديوان الحكم ; وهو ما فيه وثائق الناس من المحاضر ، وهي نسخ ما ثبت عند الحاكم ، والسجلات نسخ ما حكم به ، وما كان عنده من حجج الناس ووثائقهم مودعة في ديوان الحكم ، فكانت عنده بحكم الولاية ، فإذا انتقلت الولاية إلى غيره ، كان عليه تسليمها [ ص: 96 ] إليه ، فتكون مودعة عنده في ديوانه ، ثم يخرج في اليوم الذي وعد بالجلوس فيه إلى مجلسه ، على أكمل حالة وأعدلها ، خليا من الغضب ، والجوع الشديد والعطش ، والفرح الشديد والحزن الكثير ، والهم العظيم ، والوجع المؤلم ، ومدافعة الأخبثين أو أحدهما ، والنعاس الذي يغمر القلب ; ليكون أجمع لقلبه ، وأحضر لذهنه ، وأبلغ في تيقظه للصواب ، وفطنته لموضع الرأي ; ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : { لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان } . فنص على الغضب ، ونبه على ما في معناه من سائر ما ذكرناه .

                                                                                                                                            ويسلم على من يمر به من المسلمين في طريقه ، ويذكر الله بقلبه ولسانه حتى يأتي مجلسه ، ويستحب أن يجعله في موضع بارز للناس فسيح ، كالرحبة والفضاء الواسع أو الجامع . ولا يكره القضاء في المساجد ، فعل ذلك شريح ، والحسن ، والشعبي ، ومحارب بن دثار ، ويحيى بن يعمر ، وابن أبي ليلى ، وابن خلدة ، قاض لعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وروي عن عمر وعثمان وعلي ، أنهم كانوا يقضون في المسجد .

                                                                                                                                            وقال مالك : القضاء في المسجد من أمر الناس القديم . وبه قال مالك ، وإسحاق ، وابن المنذر ، وقال الشافعي : يكره ذلك ، إلا أن يتفق خصمان عنده في المسجد ; لما روي أن عمر كتب إلى القاسم بن عبد الرحمن ، أن لا تقضي في المسجد ; لأنه تأتيك الحائض والجنب . ولأن الحاكم يأتيه الذمي والحائض والجنب ، وتكثر غاشيته ، ويجري بينهم اللغط والتكاذب والتجاحد ، وربما أدى إلى السب وما لم تبن له المساجد . ولنا ، إجماع الصحابة بما قد رويناه عنهم .

                                                                                                                                            وقال الشعبي : رأيت عمر وهو مستند إلى القبلة ، يقضي بين الناس . وقال مالك : هو من أمر الناس القديم . ولأن القضاء قربة وطاعة وإنصاف بين الناس ، فلم يكره في المسجد ، ولا نعلم صحة ما رووه عن عمر ، وقد روي عنه خلافه .

                                                                                                                                            وأما الحائض ، فإن عرضت لها حاجة إلى القضاء ، وكلت ، أو أتته في منزله . والجنب يغتسل ويدخل ، والذمي يجوز دخوله بإذن مسلم . وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يجلس في مسجده ، مع حاجة الناس إليه للحكومة والفتيا وغير ذلك من حوائجهم ، وكان أصحابه يطالب بعضهم بعضا بالحقوق في المسجد ، وربما رفعوا أصواتهم .

                                                                                                                                            فقد روي عن كعب بن مالك أنه قال : { تقاضيت ابن أبي حدرد دينا في المسجد ، حتى ارتفعت أصواتنا ، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فأشار إلي ، أن ضع من دينك الشطر . فقلت : نعم يا رسول الله ، فقال : فقم فاقضه } . وينبغي أن يكون جلوسه في وسط البلد ، لئلا يبعد على قاصديه ، ولا يتخذ حاجبا يحجب الناس عن الوصول إليه ; لما روى القاسم بن مخيمرة ، عن أبي مريم صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { من ولي من أمور الناس شيئا ، واحتجب دون حاجتهم ، احتجب الله دون حاجته وفاقته وفقره } . رواه الترمذي .

                                                                                                                                            ولأن حاجبه ربما قدم المتأخر وأخر المتقدم لغرض له ، وربما كسرهم بحجبهم والاستئذان لهم . ولا بأس باتخاذ حاجب في غير مجلس القضاء . ويبسط له شيء يجلس عليه ولا يجلس على التراب ، ولا على حصير المسجد ; لأن ذلك يذهب بهيبته من أعين الخصوم ، ويجعل جلوسه مستقبل القبلة ; لأن خير المجالس ما استقبل به القبلة . وهذه الآداب المذكورة في هذا الفصل ليست شرطا في الحكم ، إلا الخلو من الغضب وما في معناه ، فإن في اشتراطه روايتين .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية