الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      مسألة : يشترط لصحة الاستثناء شروط

                                                      أحدها الاتصال بالمستثنى منه لفظا ، بأن يعد الكلام واحدا غير منقطع ، نحو له علي عشرة إلا درهما ، أو حكما بأن يكون انفصاله وتأخره على وجه لا يدل على أن المتكلم قد استوفى غرضه من الكلام كالسكوت ، لانقطاع نفس أو بلع ريق ، فإن انفصل لا على هذا الوجه لغا . ونقل عن ابن عباس أنه جوز الاستثناء المنفصل على نحو ما جوزه من تأخير التخصيص عن العموم والبيان عن المجمل ، ثم اختلف عنه ، فقيل إلى شهر : وقيل إلى سنة ، وقيل : أبدا . [ ص: 381 ] ثم منهم من رده ، وقال : لم يصح عنه ، كإمام الحرمين ، والغزالي ، بما يلزم منه من ارتفاع الثقة بالعهود والمواثيق ، لإمكان تراخي الاستثناء ، ويلزم منه أن لا يصح يمين قط . ومنهم من أوله ، كالقاضي أبي بكر بما إذا نوى الاستثناء متصلا بالكلام ، ثم أظهر نيته بعده ، فإنه يدين ، ومن مذهبه أن ما يدين فيه العبد يقبل ظاهرا .

                                                      وقيل : يجوز بشرط أن يقول عند قوله إلا زيدا : أريد الاستثناء ، حكاه الغزالي . وقيل : أراد به استثناءات القرآن ، فيجوز في كلام الله خاصة .

                                                      وقد قال بعض الفقهاء : إن التأخير فيه غير قادح ، قال إمام الحرمين : وإنما حملهم خيال تخيلوه من قول المتكلمين الصائرين إلى أن الكلام الأزلي واحد ، وإنما التركيب في جهات الوصول للمخاطبين ، لا في كلام رب العالمين

                                                      وقال المقترح : هو باطل لأنهم إن أرادوا المعنى القائم بالنفس ، فلا يدخله الاستثناء ، وكذلك المثبت في اللوح المحفوظ ، لأنه إنما نزل بلغة العرب ، والعرب لا تجوز الاستثناء المنفصل .

                                                      وقال القرافي : المنقول عن ابن عباس إنما هو في التعليق على مشيئة الله تعالى خاصة ، كمن حلف ، وقال : إن شاء الله ، وليس هو في الإخراج بإلا وأخواتها . قال : ونقل العلماء أن مدركه في ذلك { ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا ، إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت } قالوا : المعنى إذا نسيت قول إن شاء الله ، فقل بعد ذلك . ولم يخصص . [ ص: 382 ]

                                                      قلت : وفي مستدرك الحاكم ، عن ابن عباس قال : إذا حلف الرجل على يمين فله أن يستثني إلى سنة ، وإنما نزلت هذه الآية { واذكر ربك إذا نسيت } قال : إذا ذكر استثنى ، وقال : صحيح على شرط الشيخين ، لكن قال الحافظ أبو موسى المديني : لو صح هذا عنده ، لاحتمل رجوعه إذ علم أن ذلك خاص برسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم أسند ذلك من جهة ابن عباس ، وقد ذكرت طرقه عن ابن عباس في " المعتبر في تخريج أحاديث المنهاج والمختصر .

                                                      وحكى ابن النجار في " تاريخ بغداد " أن أبا إسحاق الشيرازي أراد الخروج مرة من بغداد فاجتاز في بعض الطرق ، وإذا برجل على رأس سلة فيها بقل ، وهو يحمل على ثيابه ، وهو يقول لآخر معه : مذهب ابن عباس في الاستثناء غير صحيح ، إذ لو كان صحيحا لما قال تعالى لأيوب عليه الصلاة والسلام : { وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث } بل كان يقول له : استثن ، ولا حاجة إلى هذا التحيل في البر .

                                                      قال : فقال أبو إسحاق : بلدة فيها رجل يحمل البقل ، وهو يرد على ابن عباس ، لا تستحق أن تخرج منها .

                                                      ومثله احتجاج بعضهم بقوله تعالى : { ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته } فلو جاز الاستثناء من غير شرط الاتصال لم يكن لشرع الكفارة وإيجابها معنى ، لأنه كان يستثنى . [ ص: 383 ] وقد حكي أن الرشيد استدعى أبا يوسف القاضي وقال له : كيف مذهب ابن عباس في الاستثناء ، فقال له أبو يوسف : إن الاستثناء المنفصل يلحق بالخطاب ويغير حكمه ، ولو بعد زمان . فقال : عزمت عليك أن تفتي به ، ولا تخالفه . وكان أبو يوسف لطيفا فيما يورده ، متأنيا فيما يريده ، فقال له : رأي ابن عباس يفسد عليك بيعتك ; لأن من حلف لك ، وبايعك رجع إلى منزله ، واستثنى . فانتبه الرشيد ، وقال : إياك أن تعرف الناس مذهب ابن عباس ، فاكتمه .

                                                      وقال ابن ظفر في " الينبوع " : إذا حققت هذه المسألة ضعف أمر الخلاف فيها . وتحقيقها أنه لا يخلو الحالف التارك للاستثناء من أحد ثلاثة أمور : إما أن يكون نوى الجزم ، وترك الاستثناء ، فما أظن الخلاف يقع في مثل هذا . أو يكون نوى أن يستثني ، ولم ينطق بالاستثناء ، ثم ذكر فتلفظ به ، فلا يحسن أن يعد استثناؤه لغوا . وإما أن يكون ذاهلا عن الأمرين معا ، فهذه الصورة صالحة للاختلاف ، ولا يظهر فيها قول من صحح الاستثناء ، لأن الآية لا تشهد له من حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحلف ، ولا تضمنت الآية ذكر يمين . انتهى . [ ص: 384 ] واعلم أن سبب الخلاف في هذه المسألة : أن الاستثناء هل هو حال لليمين بعد انعقادها ، أو مانع من الانعقاد لا حال ؟ فمن قال : مانع شرط الاتصال . واختلف القائلون بأنه حال ، فقيل : بالقرب ، وقيل : مطلقا من غير تأقيت بالقرب . وفي الباب قوله عليه السلام : { إلا الإذخر } . وحديث سليمان لما قال : لأطوفن الحديث ، { وقوله عليه السلام في صلح الحديبية : إلا سهل بن بيضاء } .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية