الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 8278 ) مسألة ، قال : وإذا حكم على رجل في عمل غيره فكتب بإنفاذ القضاء عليه إلى قاضي ذلك البلد ، قبل كتابه ، وأخذ المحكوم عليه بذلك الحق ثم الأصل في كتاب القاضي إلى القاضي والأمير إلى الأمير ، الكتاب والسنة والإجماع ; أما الكتاب فقول الله تعالى : { إني ألقي إلي كتاب كريم إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ألا تعلو علي وأتوني مسلمين } .

                                                                                                                                            وأما السنة ، { فإن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى كسرى ، وقيصر ، والنجاشي ، وملوك الأطراف ، وكان يكتب إلى ولاته ، ويكتب لعماله وسعاته ، وكان في كتابه إلى قيصر : بسم الله الرحمن الرحيم . من محمد رسول الله ، إلى قيصر عظيم الروم ، أما بعد ، فأسلم تسلم ، وأسلم يؤتك الله أجرا عظيما ، فإن توليت ، فإن عليك إثم الأريسيين ، { و يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم } } .

                                                                                                                                            وروى الضحاك بن سفيان ، قال { كتب إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم : أن ورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها } . وأجمعت الأمة على كتاب القاضي إلى القاضي . ولأن الحاجة إلى قبوله داعية ، فإن من له حق في بلد غير بلده ، ولا يمكنه إتيانه ، والمطالبة به ، إلا بكتاب القاضي ، فوجب قبوله .

                                                                                                                                            إذا ثبت هذا ، فإن كتاب القاضي يقبل في الأموال ، وما يقصد به المال ، ولا يقبل في الحدود ، كحق الله - تعالى . وهل يقبل فيما عدا هذا ؟ على وجهين . وبهذا قال أصحاب الرأي .

                                                                                                                                            وقال أصحاب الشافعي : يقبل في كل حق لآدمي ، من الجراح وغيرها ، وهل يقبل في الحدود التي لله تعالى ؟ على قولين . وتمام الكلام في هذا الفصل يذكر في الشهادة على الشهادة ، إن شاء الله تعالى . والكتاب على ضربين ; أحدهما ، أن يكتب بما حكم به ، وذلك مثل أن يحكم على رجل بحق ، فيغيب قبل إيفائه ، أو يدعي حقا على غائب ، ويقيم به بينة ، ويسأل الحاكم الحكم عليه ، فيحكم عليه ، ويسأله أن يكتب له كتابا يحمله إلى قاضي البلد الذي فيه الغائب ، فيكتب له إليه ، أو تقوم البينة على حاضر ، فيهرب قبل الحكم عليه ، فيسأل صاحب الحق الحاكم الحكم عليه ، وأن يكتب له كتابا بحكمه .

                                                                                                                                            ففي هذه الصور الثلاث ، يلزم الحاكم إجابته إلى الكتابة ، ويلزم المكتوب إليه قبوله ، سواء كانت بينهما مسافة بعيدة أو قريبة ، حتى [ ص: 127 ] لو كانا في جانبي بلد أو مجلس ، لزمه قبوله وإمضاؤه ، سواء كان حكما على حاضر أو غائب . لا نعلم في هذا خلافا ; لأن حكم الحاكم يجب إمضاؤه على كل حاكم .

                                                                                                                                            الضرب الثاني ، أن يكتب يعلمه بشهادة شاهدين عنده بحق لفلان ، مثل أن تقوم البينة عنده بحق لرجل على آخر ، ولم يحكم به ، فيسأله صاحب الحق أن يكتب له كتابا بما حصل عنده ، فإنه يكتب له أيضا .

                                                                                                                                            قال القاضي : ويكون في كتابه : شهد عندي فلان وفلان بكذا وكذا . ليكون المكتوب إليه هو الذي يقضي به ، ولا يكتب : ثبت عندي ; لأن قوله : ثبت عندي . حكم بشهادتهما ، فهذا لا يقبله المكتوب إليه ، إلا في المسافة البعيدة ، التي هي مسافة القصر ، ولا يقبله فيما دونها ; لأنه نقل شهادة ، فاعتبر فيه ما يعتبر في الشهادة على الشهادة . ونحو هذا قول الشافعي . وقال أبو يوسف ، ومحمد : يجوز أن يقبله في بلده .

                                                                                                                                            وحكي عن أبي حنيفة مثل هذا . وقال بعض المتأخرين من أصحابه : الذي يقتضيه مذهبه أنه لا يجوز ذلك في الشهادة على الشهادة . واحتج من أجازه بأنه كتاب الحاكم بما ثبت عنده ، فجاز قبوله مع القرب ، ككتابه بحكمه .

                                                                                                                                            ولنا ، أن ذلك نقل الشهادة إلى المكتوب إليه ، فلم يجز مع القرب ، كالشهادة على الشهادة ، ويفارق كتابه بالحكم ; فإن ذلك ليس بنقل ، وإنما هو خبر ، وكل موضع يلزمه قبول الكتاب ، فإنه يأخذ المحكوم عليه بالحق الذي حكم عليه به ، فيبعث إليه ، فيستدعيه ، فإن اعترف بالحق ، أمره بأدائه ، وألزمه إياه . وإن قال : لست المسمى في هذا الكتاب .

                                                                                                                                            فالقول قوله مع يمينه ، إلا أن يقيم المدعي بينة أنه المسمى في الكتاب . وإن اعترف أن هذا الاسم اسمه ، والنسب نسبه ، والصفة صفته ، إلا أن الحق ليس هو عليه ، إنما هو على آخر يشاركه في الاسم والنسب والصفة ، فالقول قول المدعي في نفي ذلك ; لأن الظاهر عدم المشاركة في هذا كله ، فإن أقام المدعى عليه بينة بما ادعاه من وجود مشارك له في هذا كله ، أحضره الحاكم ، وسأله عن الحق ، فإن اعترف به ، ألزمه به ، وتخلص الأول ، وإن أنكره ، وقف الحكم ، ويكتب إلى الحاكم الكاتب يعلمه الحال ، وما وقع من الإشكال ، حتى يحضر الشاهدين ، فيشهدا عنده بما يتميز به المشهود عليه منهما .

                                                                                                                                            وإن ادعى المسمى أنه كان في البلد من يشاركه في الاسم والصفة ، وقد مات ، نظرنا ; فإن كان موته قبل وقوع المعاملة التي وقع الحكم بها ، أو كان ممن لم يعاصره المحكوم عليه ، أو المحكوم له ، لم يقع إشكال ، وكان وجوده كعدمه . وإن كان موته بعد الحكم ، أو بعد المعاملة ، وكان ممن أمكن أن تجري بينه وبين المحكوم له معاملة ، فقد وقع الإشكال ، كما لو كان حيا ; لجواز أن يكون الحق على الذي مات .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية