الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 8283 ) مسألة ، قال : ولا يقبل الكتاب إلا بشهادة عدلين يقولان : قرأه علينا ، أو قرئ عليه بحضرتنا ، فقال : اشهدا على أنه كتابي إلى فلان وجملته أنه يشترط لقبول كتاب القاضي شروط ثلاثة ; أحدها ، أن يشهد به شاهدان عدلان ، ولا يكفي معرفة المكتوب إليه خط الكاتب ، وختمه ، ولا يجوز له قبوله بذلك ، في قول أئمة الفتوى .

                                                                                                                                            وحكي عن الحسن ، وسوار ، والعنبري ، أنهم [ ص: 130 ] قالوا : إذا كان يعرف خطه وختمه ، قبله . وهو قول أبي ثور ، والإصطخري . ويتخرج لنا مثله بناء على قوله في الوصية إذا وجدت بخطه ; لأن ذلك تحصل به غلبة الظن ، فأشبه شهادة الشاهدين . ولنا ، أن ما أمكن إثباته بالشهادة ، لم يجز الاقتصار فيه على الظاهر ، كإثبات العقود ; ولأن الخط يشبه الخط ، والختم يمكن التزوير عليه ، ويمكن الرجوع إلى الشهادة ، فلم يعول على الخط ، كالشاهد لا يعول في الشهادة على الخط ، وفي هذا انفصال عما ذكروه .

                                                                                                                                            إذا ثبت هذا ، فإن القاضي إذا كتب الكتاب ، دعا رجلين يخرجان إلى البلد الذي فيه القاضي المكتوب إليه ، فيقرأ عليهما الكتاب ، أو يقرؤه غيره عليهما ، والأحوط أن ينظرا معه فيما يقرآه ، فإن لم ينظرا ، جاز ; لأنه لا يستقرئ إلا ثقة ، فإذا قرئ عليهما قال : اشهدا علي أن هذا كتابي إلى فلان .

                                                                                                                                            وإن قال : اشهدا علي بما فيه . كان أولى ، وإن اقتصر على قوله : هذا كتابي إلى فلان . فظاهر كلام الخرقي أنه لا يجزئ ; لأنه يحملهما الشهادة ، فاعتبر فيه أن يقول : اشهدا علي . كالشهادة على الشهادة . وقال القاضي : يجزئ . وهو مذهب الشافعي .

                                                                                                                                            ثم إن كان ما في الكتاب قليلا ، اعتمد على حفظه ، وإن كثر فلم يقدرا على حفظه ، كتب كل واحد منهما مضمونه ، وقابل بها لتكون معه ، يذكر بها ما يشهد به ، ويقبضان الكتاب قبل أن يغيبا ; لئلا يدفع إليهما غيره ، فإذا وصل الكتاب معهما إليه ، قرأه الحاكم أو غيره عليهما ، فإذا سمعاه قالا : نشهد أن هذا كتاب فلان القاضي إليك ، أشهدنا على نفسه بما فيه . لأنه قد يكون كتابه غير الذي أشهدهما عليه .

                                                                                                                                            قال أبو الخطاب : ولا يقبل إلا أن يقولا : نشهد أن هذا كتاب فلان . لأنها أداء شهادة ، فلا بد فيها من لفظ الشهادة . ويجب أن يقولا : من عمله . لأن الكتاب لا يقبل إلا إذا وصل من مجلس عمله . وسواء وصل الكتاب مختوما أو غير مختوم ، مقبولا أو غير مقبول ; لأن الاعتماد على شهادتهما ، لا على الخط والختم . فإن امتحا الكتاب ، وكانا يحفظان ما فيه ، جاز لهما أن يشهدا بذلك ، وإن لم يحفظا ما فيه ، لم تمكنهما الشهادة . وقال أبو حنيفة ، وأبو ثور : لا يقبل الكتاب حتى يشهد شاهدان على ختم القاضي .

                                                                                                                                            ولنا ، { أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب كتابا إلى قيصر ، ولم يختمه ، فقيل له : إنه لا يقرأ كتابا غير مختوم ، فاتخذ الخاتم . } واقتصاره على الكتاب دون الختم ، دليل على أن الختم ليس بشرط في القبول ، وإنما فعله النبي صلى الله عليه وسلم ليقرءوا كتابه ، ولأنهما شهدا بما في الكتاب وعرفا ما فيه ، فوجب قبوله ، كما لو وصل مختوما وشهدا بالختم .

                                                                                                                                            إذا ثبت هذا ، فإنه إنما يعتبر ضبطهما لمعنى الكتاب ، وما يتعلق به الحكم . قال الأثرم : سمعت أبا عبد الله يسأل عن قوم شهدوا على صحيفة ، وبعضهم ينظر فيها ، وبعضهم لا ينظر ؟ قال : إذا حفظ فليشهد . قيل : كيف يحفظ ، وهو كلام كثير ، قال : يحفظ ما كان عليه الكلام والوضع . قلت : يحفظ المعنى ؟ قال : نعم .

                                                                                                                                            قيل له : والحدود والثمن وأشباه ذلك ؟ قال : نعم . ولو أدرج الكتاب وختمه ، وقال : هذا كتابي ، اشهدا علي بما فيه . أو قد : أشهدتكما على نفسي بما فيه . لم يصح هذا التحمل .

                                                                                                                                            وبه قال أبو حنيفة ، والشافعي . [ ص: 131 ] وقال أبو يوسف : إذا ختمه بختمه وعنوانه ، جاز أن يتحملا الشهادة عليه مدرجا ، فإذا وصل الكتاب شهدا عنده أنه كتاب فلان . ويتخرج لنا مثل هذا ; لأنهما شهدا بما في الكتاب ، فجاز ، وإن لم يعلما تفصيله ، كما لو شهدا لرجل بما في هذا الكيس من الدراهم ، جازت الشهادة ، وإن لم يعرفا قدرها .

                                                                                                                                            ولنا ، أنهما شهدا بمجهول لا يعلمانه ، فلم تصح شهادتهما ، كما لو شهدا أن لفلان على فلان مالا . وفارق ما ذكره ، فإن تعيينه الدراهم التي في الكيس أغنى عن معرفة قدرها ، وها هنا الشهادة على ما في الكتاب دون الكتاب ، وهما لا يعرفانه . الشرط الثاني ، أن يكتبه القاضي من موضع ولايته وحكمه فإن كتبه من غير ولايته ، لم يسغ قبوله ; لأنه لا يسوغ له في غير ولايته حكم ، فهو فيه كالعامي .

                                                                                                                                            الشرط الثالث ، أن يصل الكتاب إلى المكتوب إليه في موضع ولايته ، فإن وصله في غيره ، لم يكن له قبوله حتى يصير إلى موضع ولايته . ولو ترافع إليه خصمان في غير موضع ولايته ، لم يكن له الحكم بينهما بحكم ولايته ، إلا أن يتراضيا به ، فيكون حكمه حكم غير القاضي إذا تراضيا به ، وسواء كان الخصمان من أهل عمله أو لم يكونا .

                                                                                                                                            ولو ترافع إليه خصمان ، وهو في موضع ولايته ، من غير أهل ولايته ، كان له الحكم بينهما ; لأن الاعتبار بموضعهما ، إلا أن يأذن الإمام لقاض أن يحكم بين أهل ولايته حيث كانوا ، ويمنعه من الحكم بين غير أهل ولايته حيثما كان ، فيكون الأمر على ما أذن فيه ومنع منه ; لأن الولاية بتوليته ، فيكون الحكم على وفقها .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية