الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 8284 ) فصل : في تغيير حال القاضي : ولا يخلو من أن يتغير حال الكاتب أو المكتوب إليه ، أو حالهما معا ، فإن تغيرت حال الكاتب ، بموت أو عزل ، بعد أن كتب الكتاب ، وأشهد على نفسه ، لم يقدح في كتابه ، وكان على من وصله الكتاب قبوله ، والعمل به ، سواء تغيرت حاله قبل خروج الكتاب من يده ، أو بعده . وبهذا قال الشافعي .

                                                                                                                                            وقال أبو حنيفة : لا يعمل به في الحالين . وقال أبو يوسف : إن مات قبل خروجه من يده ، لم يعمل به ، وإن مات بعد خروجه من يده ، عمل به ; لأن كتاب الحاكم بمنزلة الشهادة على الشهادة ، لأنه ينقل شهادة شاهدي الأصل ، فإذا مات قبل وصول الكتاب ، صار بمنزلة موت شاهدي الفرع قبل أداء شهادتهما .

                                                                                                                                            ولنا ، أن المعول في الكتاب على الشاهدين اللذين يشهدان على الحاكم وهما حيان ، فيجب أن يقبل كتابه ، كما لو لم يمت ، ولأن كتابه إن كان فيما حكم به ، فحكمه لا يبطل بموته وعزله ، وإن كان فيما ثبت عنده بشهادة ، فهو أصل ، واللذان شهدا عليه فرع ، ولا تبطل شهادة الفرع بموت شاهد الأصل ، وما ذكروه حجة عليهم ; لأن الحاكم قد أشهد على نفسه ، وإنما يشهد عند المكتوب إليه شاهدان عليه ، وهما حيان ، وهما شاهدا الفرع ، وليس موته مانعا من شهادتهما ، فلا يمنع قبولها ، كموت شاهدي الأصل .

                                                                                                                                            وإن تغيرت حاله بفسق قبل الحكم بكتابته ، لم يجز الحكم به ; لأن حكمه بعد فسقه لا يصح ، فكذلك لا يجوز الحكم [ ص: 132 ] بكتابه ، ولأن بقاء عدالة شاهدي الأصل شرط في صحة الحكم بشاهدي الفرع ، فكذلك بقاء عدالة الحاكم ; لأنه بمنزلة شاهدي الأصل . وإن فسق بعد الحكم بكتابه لم يتغير ، كما لو حكم بشيء ثم بان فسقه ، فإنه لا ينقض ما مضى من أحكامه ، كهذا هاهنا .

                                                                                                                                            وأما إن تغيرت حال المكتوب إليه بأي حال كان ; من موت ، أو عزل ، أو فسق ، فلمن وصل إليه الكتاب ممن قام مقامه ، قبول الكتاب ، والعمل به . وبه قال الحسن . حكي عنه أن قاضي الكوفة كتب إلى إياس بن معاوية قاضي البصرة كتابا ، فوصل وقد عزل ، وولي الحسن ، فعمل به . وبهذا قال الشافعي .

                                                                                                                                            وقال أبو حنيفة : لا يعمل به ; لأن كتاب القاضي بمنزلة الشهادة على الشهادة عند المكتوب إليه ، وإذا شهد شاهدان عند قاض ، لم يحكم بشهادتهما غيره . ولنا ، أن المعول على شهادة الشاهدين ، بحكم الأول ، أو ثبوت الشهادة عنده ، وقد شهدا عند الثاني ، فوجب أن يقبل كالأول .

                                                                                                                                            وقولهم : إنه شهادة عند الذي مات . ليس بصحيح ; فإن الحاكم الكاتب ليس بفرع ، ولو كان فرعا لم يقبل وحده ، وإنما الفرع الشاهدان اللذان شهدا عليه ، وقد أديا الشهادة عند المتجدد ، ولو ضاع الكتاب ، فشهدا بذلك عند الحاكم المكتوب إليه ، قبل ، فدل ذلك على أن الاعتبار بشهادتهما دون الكتاب ، وقياس ما ذكرناه ، أن الشاهدين لو حملا الكتاب إلى غير المكتوب إليه في حال حياته ، وشهدا عنده ، عمل به ; لما بيناه .

                                                                                                                                            وإن كان المكتوب إليه خليفة للكاتب ، فمات الكاتب ، أو عزل ، انعزل المكتوب إليه ; لأنه نائب عنه ، فينعزل بعزله وموته ، كوكلائه . وقال بعض أصحاب الشافعي : لا ينعزل خليفته ، كما لا ينعزل القاضي الأصلي بموت الإمام ، ولا عزله .

                                                                                                                                            ولنا ، ما ذكرناه ، ويفارق الإمام ; لأن الإمام يعقد القضاء والإمارة للمسلمين ، فلم يبطل ما عقده لغيره ، كما لو مات الولي في النكاح ، لم يبطل النكاح ، ولهذا ليس للإمام أن يعزل القاضي من غير تغير حاله ، ولا ينعزل إذا عزله ، بخلاف نائب الحاكم ، فإنه تنعقد ولايته لنفسه نائبا عنه ، فملك عزله ، ولأن القاضي لو انعزل بموت الإمام ، لدخل الضرر على المسلمين ; لأنه يفضي إلى عزل القضاة في جميع بلاد المسلمين ، وتتعطل الأحكام ، وإذا ثبت أنه لا ينعزل ، فليس له قبول الكتاب ; لأنه حينئذ ليس بقاض .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية