الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      [ المذاهب في تقدير دلالة الاستثناء ]

                                                      ولقوة هذا الإشكال اختلف الأصوليون في تقدير الدلالة في الاستثناء ، وهل هو إخراج قبل الحكم ؟ على ثلاثة مذاهب : [ ص: 395 ]

                                                      أحدها : ونسبه ابن الحاجب للأكثرين ، أن المراد بقوله : عشرة ، في قوله : علي عشرة إلا ثلاثة : سبعة . وقوله : إلا ثلاثة قرينة مبينة ، لأن الكل استعمل وأريد به الجزء مجازا ، كالتخصيص بغير الاستثناء . ورده ابن الحاجب بالإجماع على أن الاستثناء المتصل إخراج ، ولأن العشرة نص في مدلولها ، والنص لا يتطرق إليه تخصيص . وإنما التخصيص في الظاهر . وما قاله من الإجماع مردود ، فإن الكوفيين على أن الاستثناء لا يخرج شيئا . فإذا قلت : قام القوم إلا زيدا ، فإنك أخبرت بالقيام عن القوم الذين ليس فيهم زيد ، وزيد مسكوت عنه لم يحكم عليه بقيام ولا بنفيه . وما قاله من أن العشرة نص فسيأتي في كلامالماوردي الخلاف فيه .

                                                      وقد قال بعض الأئمة لا يستقيم غير هذا المذهب لأن الله تعالى قال : { فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما } فلو أراد الألف من لفظ الألف لما تخلف مراده عن إرادته ، فعلم أنه ما أراد إلا تسعمائة وخمسين من الألف ، كما أن المتكلم بالعشرة مع استثناء الواحد لم يرد منها إلا التسعة .

                                                      والثاني : وهو قول القاضي أبي بكر ، أن عشرة إلا ثلاثة بمنزلة سبعة من غير إخراج ، كاسمين وضعا لمسمى واحد ،

                                                      أحدهما : مفرد والآخر مركب ، وجرى عليه في " المحصول " ، واختاره إمام الحرمين ، واستنكر قول الأولين ، وقال : إنه محال ، لا يعتقده لبيب . قال ابن الحاجب : وهذا المذهب خارج من قانون اللغة إذ لم يعهد فيها لفظ مركب من ثلاثة ألفاظ وضع لمعنى واحد ، ولأنا نقطع بدلالة الاستثناء بطريق الإخراج . [ ص: 396 ]

                                                      وقال في " شرح المقدمة : إنه غير مستقيم أيضا ، لأنا قاطعون بأن المتكلم بالعشرة يعبر بها عن مدلولها ، وهو خمستان ، وبإلا عن معنى الإخراج ، وبالواحد أنه مخرج ، ولو كان كما قالوا ، لم يستقم فهم هذه المعاني منها ، كما لا يستقيم أن يفهم من بعض حروف التسعة عند إطلاقها على مدلولها معنى آخر .

                                                      وهذا الذي قاله مصادرة ، ولا نسلم أنه يفهم من العشرة خمستان مع استثناء الدرهم منها ، بل المفهوم من ذلك تسعة لا غير ، ولا " بإلا " معنى الإخراج ، لأن الاستثناء لغة : الصرف والرد . وقوله : كما لا يستقيم ليس بنظير ما نحن فيه ، إذ عدم فهم ما ذكر لعدم الوضع والاستعمال في غيرها ، والاستثناء مستعمل فيما ذكر لغة وعرفا .

                                                      واعلم أن قصد الباجي بهذا القول أن يفرق بين التخصيص بدليل متصل أو منفصل ، فإن كان بدليل متصل فمن الباقي حقيقة ، أو منفصل فإن الباقي مجاز ، ولذلك قال في الاستثناء : إن الكلام بجملته يصير عبارة عن أمر آخر .

                                                      والثالث : وهو الصحيح عند ابن الحاجب ، أن المستثنى منه مراد بتمامه ، ثم أخرج المستثنى ، ثم حكم بالإسناد بعده تقديرا ، وإن كان قبله ذكرا ، فالمراد بقولك : عشرة إلا ثلاثة ، عشرة باعتبار الأفراد ثم أخرجت ثلاثة ، ثم أسند إلى الباقي تقديرا ، فالمراد بالإسناد ما يبقى بعد الإخراج ، ورجحه الهندي وغيره ، ولذلك لا يحكم عالم بلغة العرب بالإسناد قبل تمامه لتوقع التغيير قبله بالاستثناء أو غيره ، وبه يندفع ما أورد على حقيقة الاستثناء من كونه إنكارا بعد الإقرار وتناقضا . والفرق بين هذا المذهب والأول ، أن الأفراد بكمالها غير مرادة في المستثنى منه في الأول لدلالة [ ص: 397 ] الاستثناء عليه ، وفي الثالث مرادة والاستثناء إنما هو لتغير النسبة لا للدلالة على عدم المراد .

                                                      ويتفرع على المذاهب أنه هو تخصيص أم لا ؟ فعلى قول القاضي ليس تخصيصا ، وعلى الأول تخصيص قطعا ، وعلى الثالث يحتمل . والظاهر أنه تخصيص خاص لعدهم إياه من التخصيص المتصل وتطرقه إلى النصوص . قيل : ليس بتخصيص ; لأن التخصيص شرطه الإرادة والمقارنة وهي منتفية إلا في قصد الاستثناء .

                                                      وقال الهندي في " الرسالة السيفية " الجمع بين احتمال كون الاستثناء تخصيصا على هذا الرأي مع أن الأفراد مرادة بكمالها فيه مشكل ، فإنهم أطبقوا على أن المخصوص غير مراد من الذي خص عنه وجود التناول ، فإن قلت : يخص قولهم ذلك بالاستثناء من غير النصوص .

                                                      قلت : الذي قال بالمذهب الثالث لا فرق عنده . أن يكون الاستثناء من ألفاظ العدد أو غيرها ، فإن الكلام في تقدير دلالة الاستثناء مطلق ، وحينئذ يلزم أن يكون هذا المذهب مخالفا لإجماعهم على أن الفرد المخصوص من العام ليس مرادا منه وقال . المازري أصل هذا الخلاف في الاستثناء من العدد هل يكون الاستثناء كقرينة غيرت وضع الصيغة ، أو لم تغيره ، وإنما كشفت عن المراد بها ؟ فمن رأى أن أسماء العدد كالنصوص التي لا تحتمل سوى ما يفهم منها قال بالأول ، وينزل المستثنى والمستثنى منه كالكلمة الواحدة الدالة على عدد ما ، ويكون المستثنى كجزء من أجزاء هذه الكلمة لمجموع الدال على العدد المبقى .

                                                      ومن رأى أن أسماء العدد ليست نصا فإن العشرة ربما استعملت في عشرة ناقصة ، رأى أن الاستثناء قرينة لفظية دلت على المراد بالمستثنى منه ، [ ص: 398 ] كما دل قوله : لا تقتلوا الرهبان على المراد بقوله : { اقتلوا المشركين } . قال : وهذا ظاهر على القول بأن دلالة العام على أفراده ظاهرة . فإن قلنا نص فلا يستقيم ، ثم ذكر من الفرق بين التخصيص والاستثناء أن الاستثناء يدخل على النصوص ، والتخصيص لا يدخل عليها .

                                                      والحاصل أن مذهب الأكثرين أنك إذا استعملت العشرة في سبعة مجازا دل عليه قولك : إلا ثلاثة ، والقاضي وإمام الحرمين عندهما أن المجموع يستعمل في السبعة ، وابن الحاجب عنده أنك تصورت ماهية العشرة ، ثم حذفت منها ثلاثة ثم حكمت بالسبعة ، فكأنه قال : له علي الباقي من عشرة أخرج منها ثلاثة ، أو عشرة إلا ثلاثة له عندي . وكل من أراد أن يحكم على شيء بدأ باستحضاره في ذهنه ، فهذا القائل بدأ باستحضار العشرة في ذهنه ، ثم أخرج الثلاثة ، ثم حكم ، كما أنك تخرج عشرة دراهم من الكيس ، ثم ترد منها إليه ثلاثة ثم تهب الباقي وهو السبعة .

                                                      هذا تقرير مذهب ابن الحاجب ، لكن تصريحه بأن الإسناد بعد الإخراج مخالف لمذهب سيبويه أن " إلا " أداة أخرجت من الاسم والحكم ، وهذا إنما يأتي على القول المرجوح أن الإخراج من الاسم فقط .

                                                      ويرد عليه أيضا أن المفرد لا يستثنى منه ، ولو استثني منه لم ينتظم أن يقال : العامل في المستثنى هو العامل في المستثنى منه ، كما هو مذهب كثير من النحاة . والتحقيق أن المراد بالإسناد ما يبقى بعد الإخراج ، لأن الإسناد للجملة إنما يتبين معناه بآخر الكلام ، فإن عطف عليها " بأو " كان [ ص: 399 ] ثابتا لأحد الأمرين ، وإن عطف عليها بالواو كان ثابتا للمجموع وإن استثني منه كان ثابتا لبعض مدلولها وليس الاستثناء مبينا للمراد بالأول ، بل يحصل الإخراج

                                                      والحاصل قبله قصد أن يستثنى لا بقصد المعنى ، حتى لو قال : أنت طالق ثلاثا إلا واحدة ، ووقع الاستثناء بعد موتها ، طلقت ثلاثا ، ولو كان مبينا لزمه وعلى هذا لا يسمى تخصيصا

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية