الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
43 - الفاء

ترد عاطفة ، وللسببية ، وجزاء ، وزائدة .

الأول : العاطفة ، ومعناها التعقيب ، نحو قام زيد فعمرو ، أي أن قيامه بعده بلا مهلة ، والتعقيب في كل شيء بحسبه ، نحو : فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه ( البقرة : 36 ) .

وأما قوله تعالى : وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا ( الأعراف : 4 ) والبأس في الوجود قبل الهلاك ، وبها احتج الفراء على أن ما بعد الفاء قد يكون سابقا ، ففيه عشرة أوجه :

[ ص: 256 ] أحدها : أنه حذف السبب وأبقى المسبب ، أي أردنا إهلاكها .

الثاني : أن الهلاك على نوعين : استئصال ، والمعنى : وكم قرية أهلكناها بغير استئصال للجميع ، فجاءها بأسنا باستئصال الجميع .

الثالث : أنه لما كان مجيء البأس مجهولا للناس ، والهلاك معلوما لهم ، وذكره عقب الهلاك ، وإن كان سابقا ؛ لأنه لا يتضح إلا بالهلاك .

الرابع : أن المعنى قاربنا إهلاكها ، فجاءها بأسنا فأهلكناها .

الخامس : أنه على التقديم والتأخير ، أي جاءها بأسنا فأهلكناها .

السادس : أن الهلاك ومجيء البأس لما تقاربا في المعنى ، جاز تقديم أحدهما على الآخر .

السابع : أن معنى " فجاءها " أنه لما شوهد الهلاك علم مجيء البأس ، وحكم به من باب الاستدلال بوجود الأثر على المؤثر .

الثامن : أنها عاطفة للمفصل على المجمل ، كقوله تعالى : إنا أنشأناهن إنشاء فجعلناهن أبكارا عربا ( الواقعة : 35 إلى 37 ) .

التاسع : أنها للترتيب الذكري .

العاشر : . . . . . .

وتجيء للمهلة كـ " ثم " ، كقوله تعالى : ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ( المؤمنون : 14 ) ولا شك أن بينها وسائط .

وكقوله : والذي أخرج المرعى فجعله غثاء أحوى ( الأعلى : 4 - 5 ) فإن بين الإخراج والغثاء وسائط .

[ ص: 257 ] وجعل منه ابن مالك قوله تعالى : ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة ( الحج : 63 ) وتؤولت على أن " تصبح " معطوف على محذوف تقديره : " أتينا به فطال النبت فتصبح " .

وقيل : بل هي للتعقيب ، والتعقيب على ما بعد في العادة تعقيبا لا على سبيل المضايفة ، فرب سنين بعد الثاني عقب الأول في العادة ، وإن كان بينهما أزمان كثيرة ، كقوله تعالى : ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا قاله ابن الحاجب .

وقيل : بل للتعقيب الحقيقي على بابها ، وذلك لأن أسباب الاخضرار عند زمانها ، فإذا تكاملت أصبحت مخضرة بغير مهلة ، والمضارع بمعنى الماضي يصح عطفه على الماضي ، وإنما لم ينصب على جواب الاستفهام لوجهين :

أحدهما : أنه بمعنى التقرير ، أي قد رأيت فلا يكون له جواب ؛ لأنه خبر .

والثاني : أنه إنما ينصب ما بعد الفاء ، إذا كان الأول سببا له ، ورؤيته لإنزال الماء ليست سببا لاخضرار الأرض ، إنما السبب هو إنزال الماء ولذلك عطف عليه .

وأما قوله تعالى : فإذا قرأت القرآن فاستعذ ( النحل : 98 ) إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا ( المائدة : 6 ) فالتقدير : فإذا أردت فاكتفي بالسبب عن المسبب . ونظيره : أن اضرب بعصاك الحجر ( الأعراف : 160 ) أي فضرب فانفجرت .

وأما قوله : ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ( المؤمنون : 14 ) فقيل : الفاء في فخلقنا العلقة وفي فكسونا بمعنى " ثم " لتراخي معطوفها .

وقال صاحب " البسيط " : طول المدة وقصرها بالنسبة إلى وقوع الفعل فيهما ، فإن كان الفعل يقتضي زمنا طويلا طالت المهلة ، وإن كان في التحقيق وجود الثاني [ ص: 258 ] عقيب الأول بلا مهلة ، وإن كان الفعل يقتضي زمنا قصيرا ظهر التعقيب بين الفعلين ، فالآية واردة على التقدير الأول لأن بين النطفة وبين العلقة ، وبين زمن العلقة وزمن المضغة طولا كما ورد في الخبر ، وعند انقضاء زمن الأول يشرع في الثاني بلا مهلة ، فلا ينافي معنى الفاء .

والحاصل أن المهلة بين الثاني والأول بالنسبة إلى زمن الفعل ، وأما بالنسبة إلى الفعل فوجود الثاني عقب الأول من غير مهلة بينهما ، هذا كله في سورة المؤمنين .

وقال في سورة الحج : ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة ( الآية : 5 ) فعطف الكل بـ " ثم " ، ولهذا قال بعضهم : " ثم " لملاحظة أول زمن المعطوف عليه ، والفاء لملاحظة آخره ، وبهذا يزول سؤال أن المخبر عنه واحد وهو مع أحدهما بالفاء وهي للتعقيب ، وفي الأخرى بثم وهي للمهلة وهما متناقضان .

وقد أورد الشيخ عز الدين هذا السؤال في قوله : ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعملون ( الزمر : 7 ) وفي أخرى : ثم ينبئكم ( الأنعام : 60 ) .

وأجاب بأن أول ما تحاسب أمة النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم الأمم بعدهم ، فتحمل الفاء على أول المحاسبين ، ويكون من باب نسبة الفعل إلى الجماعة إذا صدر عن بعضهم ، كقوله تعالى : وقتلهم الأنبياء بغير حق ( آل عمران : 181 ) ويحمل " ثم " على تمام الحساب .

فإن قيل : حساب الأولين متراخ عن البعث فكيف يحسن الفاء ؟ فيعود السؤال .

[ ص: 259 ] قلنا نص الفارسي في الإيضاح على أن " ثم " أشد تراخيا من الفاء ، فدل على أن الفاء لها تراخ ، وكذا ذكر غيره من المتقدمين ، ولم يدع أنها للتعقيب إلا المتأخرون انتهى .

وتجيء لتفاوت ما بين رتبتين كقوله : والصافات صفا فالزاجرات زجرا فالتاليات ذكرا ( الصافات : 1 إلى 3 ) تحتمل الفاء فيه تفاوت رتبة الصف من الزجر ، ورتبة الزجر من التلاوة ، ويحتمل تفاوت رتبة الجنس الصاف من رتبة الجنس الزاجر ، بالنسبة إلى صفهم وزجرهم ، ورتبة الجنس الزاجر من الجنس التالي بالنسبة إلى زجره وتلاوته .

وقال الزمخشري : للفاء مع الصفات ثلاثة أحوال :

أحدها : أنها تدل على ترتيب معانيها في الوجود كقوله :

يالهف زيابة للحارث فال 206 صابح فالغانم فالآيب

أي الذي أصبح فغنم فآب .

الثاني : أن تدل على ترتيبها في التفاوت من بعض الوجوه ، نحو قولك : خذ الأكمل فالأفضل ، واعمل الأحسن فالأجمل .

الثالث : أنها تدل على ترتيب موصوفاتها ، فإنها في ذلك ، نحو : رحم الله المحلقين فالمقصرين .

النوع الثاني : لمجرد السببية والربط ، نحو : إنا أعطيناك الكوثر فصل ( الكوثر : 1 - 2 ) ولا يجوز أن تكون عاطفة ، فإنه لا يعطف الخبر على الإنشاء ، وعكسه عكسها بمجرد العطف فيما سبق ، من نحو : فجعله غثاء أحوى ( الأعلى : 5 ) .

[ ص: 260 ] وقد تأتي لهما ، نحو : فوكزه موسى فقضى عليه ( القصص : 15 ) فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه ( البقرة : 37 ) لآكلون من شجر من زقوم فمالئون منها البطون فشاربون عليه من الحميم فشاربون شرب الهيم ( الواقعة : 52 إلى 55 ) .

وقد تجيء في ذلك لمجرد الترتيب كقوله تعالى : فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين فقربه إليهم ( الذاريات : 26 - 27 ) .

وأما قوله تعالى : فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ( الأعراف : 175 ) فهذه ثلاث فاءات ، وهذا هو الغالب على الفاء المتوسطة بين الجمل المتعاطفة .

وقال بعضهم : إذا ترتب الجواب بالفاء ، فتارة يتسبب عن الأول ، وتارة يقام مقام ما تسبب عن الأول .

مثال الجاري على طريق السببية : سنقرئك فلا تنسى ( الأعلى : 6 ) فآمنوا فمتعناهم إلى حين ( الصافات : 148 ) فكذبوه فأنجيناه ( الأعراف : 64 ) .

ومثال الثاني : ما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا ( الإسراء : 60 ) وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم ( الأحقاف : 26 ) .

والنوع الثالث : الجزائية ، والفاء تلزم في جواب الشرط إذا لم يكن فعلا خبريا ، أعني ماضيا ومضارعا ، فإن كان فعلا خبريا امتنع دخول الفاء ، فيحتاج إلى بيان ثلاثة أمور : العلة ، وتعاقب الفعل الخبري ، والفاء .

والجواب عن اجتماعهما في قوله تعالى : إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت ( يوسف : 26 - 27 ) ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار ( النمل : 90 ) وقوله : فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا ( الجن : 13 ) وقراءة حمزة : " إن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى " ( البقرة : 282 ) .

[ ص: 261 ] وعن ارتفاعهما في قوله تعالى : وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون ( الروم : 36 ) وفي قول الشاعر :


من يفعل الحسنات الله يشكرها



والجواب عن الأول ، وهو السؤال عن علة تعاقب الفعل والفاء ، أن الجواب هو جملة تامة ، يجوز استقلالها فلا بد من شيء يدل على ارتباطها بالشرط ، وكونها جوابا له ، فإذا كانت الجملة فعلية صالحة لأن تكون جزاء ، اكتفي بدلالة الحال على كونها جوابا ، لأن الشرط يقتضي جوابا ، وهذه الجملة تصلح جوابا ولم يؤت بغيرها ، فلزم كونها جوابا ، وإذا تعقبت الجواب امتنع دخول الفاء للاستغناء عنها ، فإن كانت الجملة غير فعلية لم تكن صالحة للجواب بنفسها ، لأن الشرط إنما يقتضي فعلين : شرطا وجزاء ، فما ليس فعلا ليس من مقتضيات أداة الشرط ، حتى يدل اقتضاؤها على أنه الجزاء ، فلا بد من رابطة فجعلوا الفاء رابطة ، لأنها للتعقيب ، فيدل تعقيبها الشرط بتلك الجملة على أنها الجزاء ، فهذا هو السبب في تعاقب الفعل والفاء في باب الجزاء .

والجواب عن الثاني : هو أن اجتماع الفعل والفاء في الآيتين غير مبطل للمدعي بتعاقبهما وهو أن المدعي تعاقبهما إذا كان الفعل صالحا لأن يجازى به ، وهو إذا ما كان صالحا للاستقبال لأن الجزاء لا يكون إلا مستقبلا .

وقوله : صدقت و كذبت المراد بالفعل في الآية المضي ، فلم يصح أن يكون جوابا فوجبت الفاء .

فإن قيل : فلم سقطت الفاء في قوله : وإذا ما غضبوا هم يغفرون ( الشورى : 37 ) قلنا عنه ثلاثة أجوبة :

[ ص: 262 ] أحدها : أن إذا في الآية ليست شرطا بل لمجرد الزمان ، والتقدير : والذين هم ينتصرون زمان إصابة البغي لهم .

والثاني : أن " هم " زائدة للتوكيد .

والثالث : أن الفاء حسن حذفها كون الفعل ماضيا .

وبالأول يجاب عن قوله تعالى : وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات ما كان حجتهم إلا أن قالوا ( الجاثية : 25 ) والجواب عن الثالث أن الفعل والفاء أيضا من قوله : وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون ( الروم : 36 ) فهو أن " إذا " قامت مقام الفاء ، وسدت مسدها لحصول الربط بها ، كما يحصل بالفاء ، وذلك لأن إذا للمفاجأة ، وفي المفاجأة معنى التعقيب .

وأما الأخفش فإنه جوز حذف الفاء حيث يوجب سيبويه دخولها ، واحتج بقوله تعالى : وإن أطعتموهم إنكم لمشركون ( الأنعام : 121 ) .

وبقراءة من قرأ : وما أصابكم من مصيبة بما كسبت أيديكم ( الشورى : 30 ) في قراءة نافع وابن عامر .

ولا حجة فيه ، لأن الأول يجوز أن يكون جواب قسم ، والتقدير : والله إن أطعمتموهم فتكون إنكم لمشركون جوابا للقسم ، والجزاء محذوف سد جواب القسم مسده .

وأما الثانية ، فلأن ( ما ) فيه موصولة لا شرطية ، فلم يجز دخول الفاء في خبرها .

والرابع : الزائدة كقوله تعالى : فليذوقوه حميم ( ص : 57 ) والخبر حميم وما بينهما معترض .

وجعل منه الأخفش : فذلك الذي يدع اليتيم ( الماعون : 2 ) .

[ ص: 263 ] وقال سيبويه : هي جواب لشرط مقدر ، أي إن أردت عليه فذلك . وقوله : فصل لربك وانحر ( الكوثر : 2 ) على قول .

التالي السابق


الخدمات العلمية