الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 8309 ) مسألة ; قال : ولو سأل أحدهما شريكه مقاسمته ، فامتنع ، أجبره الحاكم على ذلك ، إذا أثبت عنده ملكها ، وكان مثله ينقسم وينتفعان به مقسوما أما إذا طلب أحدهما القسمة ، فامتنع الآخر ، لم يخل من حالين ; أحدهما ، يجبر الممتنع على القسمة ، وذلك إذا اجتمع ثلاثة شروط ; أحدها ، أن يثبت عند الحاكم ملكهما ببينة ; لأن في الإجبار على القسمة حكما على الممتنع منهما ، فلا يثبت إلا بما يثبت به الملك لخصمه ، بخلاف حالة الرضا ; فإنه لا يحكم على أحدهما ، إنما يقسم بقولهما ورضاهما .

                                                                                                                                            الشرط الثاني ، أن لا يكون فيها ضرر ، فإن كان فيها ضرر ، لم يجبر الممتنع ; لقول النبي صلى الله عليه وسلم : { لا ضرر ، ولا ضرار } . رواه ابن ماجه ، ورواه مالك ، في " موطئه " مرسلا ، وفي لفظ ، { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى ، أن لا ضرر ولا ضرار } الشرط الثالث ، أن يمكن تعديل السهام من غير شيء يجعل معها ، فإن لم يمكن ذلك ، لم يجبر الممتنع ; لأنها تصير بيعا ، والبيع لا يجبر عليه أحد المتبايعين ، ومثال ذلك ، أرض قيمتها مائة ، فيها شجرة أو بئر تساوي مائتين ، فإذا جعلت الأرض سهما ، كانت الثلث ، فيحتاج أن يجعل معها خمسين يردها عليه من لم يخرج له البئر أو الشجرة ، ليكونا نصفين متساويين ، فهذه فيها بيع ، ألا ترى أن آخذ الأرض قد باع نصيبه من الشجرة أو البئر بالثمن الذي أخذه ، والبيع لا يجبر عليه ; لقول الله تعالى : { إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } .

                                                                                                                                            فإذا اجتمعت الشروط الثلاثة ، أجبر الممتنع منهما على القسمة ; لأنها تتضمن إزالة ضرر الشركة عنهما ، وحصول النفع لهما ; لأن نصيب كل واحد منهما إذا تمز ، كان له أن يتصرف فيه بحسب اختياره ، ويتمكن من [ ص: 143 ] إحداث الغراس والبناء والزرع والسقاية والإجارة والعارية ، ولا يمكنه ذلك مع الاشتراك ، فوجب أن يجبر الآخر عليه ; لقوله عليه السلام : { لا ضرر ولا ضرار } .

                                                                                                                                            إذا ثبت هذا ، فقد اختلفوا في الضرر المانع من القسمة ، ففي قول الخرقي ، وهو ما لا يمكن معه انتقاع أحدهما بنصيبه مفردا ، فيما كان ينتفع به مع الشركة ، مثل أن تكون بينهما دار صغيرة ، إذا قسمت أصاب كل واحد منهما موضعا ضيقا لا ينتفع به .

                                                                                                                                            ولو أمكن أن ينتفع به في شيء غير الدار ، ولا يمكن أن ينتفع به دارا ، لم يجبر على القسمة أيضا ; لأنه ضرر يجري مجرى الإتلاف .

                                                                                                                                            وعن أحمد ، رواية أخرى ، أن المانع هو أن تنقص قيمة نصيب أحدهما بالقسمة عن حال الشركة ، سواء انتفعوا به مقسوما أو لم ينتفعوا .

                                                                                                                                            وقال القاضي : هذا ظاهر كلام أحمد ; لأنه قال ، في رواية الميموني : إذا قال بعضهم يقسم وبعضهم لا يقسم ، فإن كان فيه نقصان من ثمنه ، بيع ، وأعطوا الثمن .

                                                                                                                                            فاعتبر نقصان الثمن .

                                                                                                                                            وهذا ظاهر كلام الشافعي ; لأن نقص قيمته ضرر ، والضرر منفي شرعا . وقال مالك : يجبر الممتنع وإن استضر ، قياسا على ما لا ضرر فيه .

                                                                                                                                            ولا يصح ; لقوله عليه السلام : { لا ضرر ولا ضرار } . ولأن في قسمته ضررا ، فلم يجبر عليه ، كقسمة الجوهرة بكسرها ، ولأن في قسمته إضاعة للمال ، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعته .

                                                                                                                                            ولا يصح القياس على ما لا ضرر فيه ; لما بينهما من الفرق ، فإن كان أحد الشريكين يستضر بالقسمة دون الآخر ; كرجلين بينهما دار ، لأحدهما ثلثها ، وللآخر ثلثاها ، فإذا قسماها استضر صاحب الثلث ; لكونه لا يحصل له ما يكون دارا ، ولا يستضر الآخر ; لأنه يبقى له ما يصير دارا مفردة ، فطلب صاحب الثلثين القسمة ، لم يجبر الآخر عليها .

                                                                                                                                            ذكره أبو الخطاب .

                                                                                                                                            وهو ظاهر كلام أحمد ، في رواية حنبل ، قال : كل قسمة فيها ضرر ، لا أرى قسمتها .

                                                                                                                                            وهذا قول ابن أبي ليلى ، وأبي ثور .

                                                                                                                                            وقال القاضي : يجبر الآخر عليها .

                                                                                                                                            وهو قول الشافعي ، وأهل العراق ; لأنه طلب إفراد نصيبه الذي لا يستضر بتمييزه ، فوجبت إجابته إليه ، كما لو كانا لا يستضران بالقسمة .

                                                                                                                                            ولنا ، قول النبي صلى الله عليه وسلم : { لا ضرر ولا ضرار } .

                                                                                                                                            ولأنها قسمة يستضر بها صاحبه ، فلم يجبر عليها ، كما لو استضرا معا ، ولأن فيه إضاعة المال ، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعته ، وإذا حرم عليه إضاعته ماله فإضاعته مال غيره أولى . وقد روى عمرو بن جميع ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { لا تعصبة على أهل الميراث ، إلا ما حصل القسم } .

                                                                                                                                            قال أبو عبيدة : هو أن يخلف شيئا ، إذا قسم كان فيه ضرر على بعضهم ، أو عليهم جميعا .

                                                                                                                                            ولأننا اتفقنا على أن الضرر مانع من القسمة ، وأن الضرر في حق أحدهما مانع ، ولا يجوز أن يكون المانع هو ضرر الطالب ; لأنه مرضي به من جهته ، فلا يجوز كونه مانعا ، كما لو تراضيا عليها مع ضررهما أو ضرر أحدهما ، فتعين الضرر المانع في جهة المطلوب ، ولأنه ضرر غير مرضي به من جهة صاحبه ، فمنع القسمة ، كما لو [ ص: 144 ] استضرا معا .

                                                                                                                                            وإن طلب القسمة المستضر بها ، كصاحب الثلث في المسألة المفروضة ، أجبر الآخر عليها .

                                                                                                                                            هذا مذهب أبي حنيفة ، ومالك ; لأنه طلب دفع ضرر الشركة عنه ، بأمر لا ضرر على صاحبه فيه ، فأجبر عليه ، كما لا ضرر فيه .

                                                                                                                                            يحققه أن ضرر الطالب مرضي به من جهته ، فسقط حكمه ، والآخر لا ضرر عليه ، فصار كما لا ضرر فيه .

                                                                                                                                            وذكر أصحابنا أن المذهب أنه لا يجبر الممتنع على القسم ; لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال ، ولأن طلب القسمة من المستضر سفه ، فلا يجب إجابته إلى السفه . قال الشريف : متى كان أحدهما يستضر ، لم تجب القسمة . وقال أبو حنيفة : متى كان أحدهما ينتفع بها ، وجبت .

                                                                                                                                            وقال الشافعي : إن انتفع بها الطالب ، وجبت ، وإن استضر بها الطالب ، فعلى وجهين .

                                                                                                                                            وقال مالك : تجب على كل حال .

                                                                                                                                            ولو كانت دار بين ثلاثة ، لأحدهم نصفها ، وللآخرين نصفها ، لكل واحد منهما ربعها ، فإذا قسمت استضر كل واحد منهما ، ولا يستضر صاحب النصف ، فطلب صاحب النصف القسمة ، وجبت إجابته ; لأنه يمكن قسمتها نصفين ، فيصير حقهما لهما دارا ، وله النصف ، فلا يستضر أحد منهما .

                                                                                                                                            ويحتمل أن لا تجب عليهما الإجابة ; لأن كل واحد منهما يستضر بإفراز نصيبه .

                                                                                                                                            وإن طلبا المقاسمة ، فامتنع صاحب النصف أجبر ; لأنه لا ضرر على واحد منهم .

                                                                                                                                            وإن طلبا إفراز نصيب كل واحد منهما ، أو طلب أحدهما إفراز نصيبه ، لم تجب القسمة على قياس المذهب لأنه إضرار بالطالب وسفه . وعلى الوجه الذي ذكرناه تجب القسمة ; لأن المطلوب منه لا ضرر عليه .

                                                                                                                                            الحال الثاني ، الذي لا يجبر أحدهما على القسمة ، وهي ما إذا عدم أحد الشروط الثلاثة ، فلا تجوز القسمة إلا برضاهما ، وتسمى قسمة التراضي ، وهي جائزة مع اختلال الشروط كلها ; لأنها بمنزلة البيع والمناقلة ، وبيع ذلك جائز .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية