الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
بيان أقسام العباد في دوام التوبة .

اعلم أن التائبين في التوبة على أربع طبقات الطبقة الأولى أن يتوب العاصي ويستقيم على التوبة إلى آخر عمره ، فيتدارك ما فرط من أمره ولا يحدث نفسه بالعود إلى ذنوبه إلا الزلات التي لا ينفك البشر عنها في العادات مهما ، لم يكن في رتبة النبوة فهذا هو الاستقامة على التوبة وصاحبه هو السابق بالخيرات المستبدل بالسيئات حسنات واسم هذه التوبة التوبة النصوح واسم هذه النفس الساكنة النفس المطمئنة التي ترجع إلى ربها راضية مرضية وهؤلاء هم الذين إليهم الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم : « سبق المفردون المستهترون بذكر الله تعالى ، وضع الذكر عنهم أوزارهم ، فوردوا القيامة خفافا » فإن فيه إشارة إلى أنهم كانوا تحت أوزار وضعها الذكر عنهم وأهل هذه الطبقة على رتب من حيث النزوع إلى الشهوات ، فمن تائب سكنت شهواته تحت قهر المعرفة ففتر نزاعها ولم يشغله عن السلوك صرعها وإلى من لا ينفك عن منازعة النفس ولكنه ملي بمجاهدتها وردها ثم تتفاوت درجات النزاع أيضا بالكثرة والقلة وباختلاف المدة وباختلاف الأنواع ، وكذلك يختلفون من حيث طول العمر فمن مختطف يموت قريبا من توبته يغبط على ذلك لسلامته وموته قبل الفترة ومن ممهل طال جهاده وصبره وتمادت استقامته ، وكثرت حسناته وحال هذا أعلى وأفضل ; إذ كل سيئة فإنما تمحوها حسنة حتى قال بعض العلماء : إنما يكفر الذنب الذي ارتكبه العاصي أن يتمكن منه عشر مرات مع صدق الشهوة ، ثم يصبر عنه ، ويكسر شهوته خوفا من الله تعالى واشتراط ، هذا بعيد ، وإن كان لا ينكر عظم أثره لو فرض ولكن لا ينبغي للمريد الضعيف أن يسلك هذا الطريق فتهيج الشهوة وتحضر الأسباب حتى يتمكن ثم يطمع في الانكفاف فإنه لا يؤمن خروج عنان الشهوة عن اختياره فيقدم على المعصية وينقض توبته بل طريقها الفرار من ابتداء أسبابه الميسرة له حتى يسد طرقها على نفسه ويسعى مع ذلك في كسر شهوته بما يقدر عليه فبه تسلم توبته في الابتداء .

التالي السابق


(فصل) في (بيان أقسام العباد في دوام التوبة) وانقطاعها

(اعلم) وفقك الله تعالى (أن طبقات التائبين أربع) أي: الناس في التوبة على أربعة أقسام، في كل قسم طبقة وكل طبقة مقام:

(الطبقة الأولى أن يتوب العاصي) من جميع ما ارتكبه من المخالفات، (ويستقيم على التوبة) والإنابة (إلى آخر عمره، فيتدارك ما فرط من أمره) فيما مضى، (ولا يحدث نفسه بالعود إلى ذنوبه) أيام حياته، (إلا الزلات التي لا ينفك البشر عنها في العادات، ومما لم يكن في رتبة النبوة) ; إذ صاحب هذه الرتبة معصوم عنها، (فهذا هو الاستقامة على التوبة) ، وصاحبه هو السابق بالخيرات، المستبدل بالسيئات حسنات، واسم هذه التوبة التوبة النصوح التي قال فيها سبحانه: يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا ، (واسم هذه النفس الساكنة المطمئنة التي ترجع إلى ربها راضية مرضية) التي قال الله تعالى فيها: يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي أي: راضية بما أوتيت مرضية عند الله، (وهؤلاء هم) المفردون (الذين إليهم الإشارة بقوله صلى الله عليه [ ص: 594 ] وسلم: "سبق المفردون المستهترون بذكر الله تعالى، وضع الذكر عنهم أثقالهم، فوردوا القيامة خفافا") قال العراقي: رواه الترمذي من حديث أبي هريرة وحسنه، وقد تقدم .

قلت: لفظ الترمذي في ذكر الله يضع الذكر، وفيه: "فيأتون يوم القيامة خفافا"، وهكذا رواه الحاكم، ورواه الطبراني من حديث أبي الدرداء، وروى أحمد ومسلم وابن حيان من حديث أبي هريرة: "سيروا، هذا ميدان سبق إليه المفردون، قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟ قال: الذاكرون الله كثيرا والذاكرات"، وقد تقدم ضبط المفردون والمستهترون في كتاب الأذكار والدعوات; (فإن فيه إشارة إلى أنهم كانوا تحت أوزار وضعها الذكر عنهم) ، وهي الذنوب التي كانت أثقلتهم، (وأهل هذه الطبقة على رتب) وأحوال مختلفة; من شفوف بعضهم على بعض (من حيث النزوع إلى الشهوات، فمن تائب سكنت شهواته تحت قهر المعرفة) ، وقوة اليقين، (يفتر نزاعها) أي: سكن منازعتها إياه، (ولم يشغله عن السلوك صراعها) أي: مصارعتها، (وإلى من لا ينفك عن منازعة النفس) ومصارعتها، (ولكنه مليء) أي: قادر (بمجاهدتها وردها) ، والغلبة عليها .

(ثم تتفاوت درجات النزاع أيضا بالكثرة والقلة) فمنهم من يكثر نزاعها له فيقابلها بالرد والكف، ومنهم من يقل (و) يتفاوت أيضا (باختلاف المدة واختلاف الأنواع، وكذلك يختلفون من حيث طول العمر) وقصره (فمن مختطف) مأخوذ به (يموت قريبا من توبته) لم يطل كثيرا، (يغبط على ذلك لسلامته وموته قبل الفترة) ، وإليه الإشارة بقول أبي بكر الصديق رضي الله عنه: طوبى لمن مات في بدوات الإسلام، (ومن مهمل) أي: متروك (طال جهاده) للنفس، (وصبره) عليها، (وتمادت) أي: طالت (استقامته، وكثرت حسناته) فعاش في سعادة، (وحال هذا أعلى وأفضل; إذ كل سيئة فإنما محوها حسنة) فأفضل السعادات طول العمر في طاعة الله، وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم: "خير الناس من طال عمره وحسن عمله" رواه أحمد، وعبد بن حميد، والترمذي من حديث عبد الله بن بشير (حتى قال بعض العلماء: إنما يكفر الذنب الذي ارتكبه العاصي أن يتمكن منه عشر مرات مع صدق الشهوة، ثم يصبر عنه، ويكسر شهوته خوفا من الله تعالى، و) لا يخفى أن (اشتراط هذا بعيد، وإن كان لا ينكر عظم أثره لو فرض) ووقع، (ولكن لا ينبغي للمريد الضعيف أن يسلك هذا الطريق فتهيج الشهوة وتحضر الأسباب حتى يتمكن ثم يطمع في الانكفاف) عنها (فإنه لا يأمن خروج عنان الشهور عن اختياره) ، فلا يقدر على دفعها وقهرها، (فيقدم على المعصية) قهرا عنه، (وينقض توبته) ويزل قدمه .

(بل طريقه الفرار من ابتداء أسبابه الميسرة له حتى يسد طرقها على نفسه) ، ولا يلتفت إليها، (ويسعى مع ذلك في كسر شهوته بما يقدر عليه فبه تسلم توبته في الابتداء) ، وفي بعض النسخ بما يقدر عليه فيه; لتسلم توبته في الابتداء .




الخدمات العلمية