الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
      معلومات الكتاب

      معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول

      الحكمي - حافظ بن أحمد الحكمي

      صفحة جزء
      ( مسألة ) : فإن قيل : أليس بممكن في قدرته - تعالى - أن يجعلهم كلهم طائعين مؤمنين مهتدين ؟ قلنا : بلى ، وقد قدمنا لك جملة وافية من الآيات والآحاديث في ذلك ، ولكن قدمنا لك أيضا أن هذا الذي فعله بهم هو مقتضى حكمته وأسمائه وصفاته ، وموجب ربوبيته وإلهيته ، وهو أعلم بمواقع فضله وعدله ، فحينئذ يقول القائل : لم كان من عباده الطائع والعاصي ؟ كقول من قال : لم كان من أسمائه الضار النافع ، والمعطي المانع ، والخافض الرافع ، والمنعم المنتقم ، ونحو ذلك ؟ إذ أفعاله - تعالى - هي مقتضى أسمائه وآثار صفاته ، فالاعتراض عليه في أفعاله اعتراض على أسمائه وصفاته ، بل وعلى إلهيته وربوبيته ، فسبحان رب العرش عما يصفون ، لا يسأل عما يفعل ، وهم يسألون .

      ( مسألة ) : واعلم أنه قد يوسوس الشيطان لبعض الناس ، فيقول : ما الحكمة في تقدير السيئات مع كراهة الله - تعالى - إياها ؟ وهل يأتي المكروه بمحبوب ؟ فنقول : الحمد لله إيمانا بإلهيته وربوبيته ، وأسمائه وصفاته ، واستسلاما لأقداره وإرادته ، وتسليما لعدله وحكمته ، اعلم يا أخي ، وفقنا الله وإياك أن الواجب على العبد أمر أهم من ذلك البحث ، وهو الإيمان بالله وأسمائه وصفاته ، والتسليم لأقداره ، واليقين بعدله وحكمته ، والفرح بفضله ورحمته ، ونحن لا نعلم من حكمة الله وسائر أسمائه وصفاته إلا ما علمناه ، ولا يحيط بكنه شيء منها ونهايته إلا الذي اتصف بها ، وهو الله الذي لا إله إلا هو ، ومما علمناه من ذلك بما علمنا الله - تبارك [ ص: 232 ] وتعالى - أن السيئة لذاتها ليست محبوبة لله ولا مرضية ، كما قال - تعالى - بعد أن نهى عباده عن الكبائر المذكورة في سورة الإسراء : ( كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها ) ، ولكن يترتب عليها من محابه ومرضاته ما هو أعلم به ، إما في حق فاعلها من التوبة والإنابة ، والإذعان والاعتراف بقدرة الله عليه ، والخوف من عقابه ورجاء مغفرته ، ونفي العجب المحبط للحسنات عنه ، ودوام الذل والانكسار ، وتمحض الافتقار وملازمة الاستغفار ، وغير ذلك من الفرائض والطاعات المحبوبة للرب - عز وجل - التي أثنى في كتابه على المتصفين بها غاية الثناء .

      وفي الصحيحين : لله أشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه ، وعليها طعامه وشرابه ، فأيس منها ، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته ، فبينما هو كذلك إذ هو بها قائمة عنده ، فأخذ بخطامها ، فقال من شدة الفرح : اللهم أنت عبدي وأنا ربك ، أخطأ من شدة الفرح . أخرجاه عن أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم . فالواجب على العبد كراهة ما يكرهه ربه وإلهه وسيده ومولاه من السيئات ، وعدم محبتها والنفرة منها ، والاجتهاد في كف النفس عنها ، وأطرها على محاب الله ، وأن لا يصدر عنها شيء يكرهه الله - عز وجل - فإن غلبته نفسه بجهلها وشرارتها فصدر عنه شيء من ذلك المكروه ، فليبادر إلى دواء ذلك وليتداركه بمحاب الله - عز وجل - ومرضاته من التوبة والإنابة ، والاستغفار والأذكار ، وعدم الإصرار ، فإن الله - تعالى - قد أرشد إلى ذلك ، وأثنى على من اتصف به ، قال الله عز وجل : ( وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين ) [ ص: 233 ] ( آل عمران 133 - 136 ) ، وغير ذلك من الآيات .

      وفي الحديث : لو لم تذنبوا ، لأتى الله بقوم يذنبون ، فيستغفرون فيغفر لهم ، أو كما قال . فإن ترتب على فعل السيئة من فاعلها هذه الأمور المحبوبة للرب عز وجل ، فذلك غاية مصلحة العبد وسعادته وفلاحه ، وإن لم يقع منه ذلك ، فلخبث نفسه وعدم صلاحيتها للملأ الأعلى ومجاورة المولى ، والله أعلم بالمهتدين ، وحينئذ يترتب عليها فرائض الله - عز وجل - على أوليائه المؤمنين من الدعوة إلى الله - عز وجل - التي هي من وظائف الرسل - عليهم السلام ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو من أعظم فرائض الله تعالى ، والجهاد في سبيله الذي هو ذروة سنام الإسلام ، وعليه يترتب لأوليائه الفتح أو الشهادة ، ويكفيك في فضل ذلك قول الله عز وجل : ( إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين ) ، ( التوبة : 111 - 112 ) ، ولو سردنا ما في هذا الباب من الآيات والأحاديث ، لطال الفصل ، ونحن نستغفر الله العظيم من الخوض في هذا الباب ، ولسنا من الراسخين في العلم ، وسيأتي إن شاء الله مزيد بحث في هذا في باب الإيمان بالقدر ، وهناك نذكر مراتبه ومذاهب من خالف فيه أهل السنة والجماعة ، إن شاء الله - تعالى - والله المستعان وعليه التكلان ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .

      التالي السابق


      الخدمات العلمية