الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          723 - مسألة : قال أبو محمد : من كان له مال مما يجب فيه الصدقة ، كمائتي درهم أو أربعين مثقالا أو خمس من الإبل أو أربعين شاة أو خمسين بقرة ، أو أصاب خمسة أوسق من بر ، أو شعير ، أو تمر وهو لا يقوم ما معه بعولته لكثرة عياله أو لغلاء السعر - : فهو مسكين ، يعطى من الصدقة المفروضة ، وتؤخذ منه فيما وجبت فيه من ماله ؟ وقد ذكرنا أقوال من حد الغنى بقوت اليوم ، أو بأربعين درهما ، أو بخمسين درهما ، أو بمائتي درهم ؟ [ ص: 277 ] واحتج من رأى الغنى بقوت اليوم بحديث رويناه من طريق أبي كبشة السلولي عن سهل بن الحنظلية عن النبي صلى الله عليه وسلم : { من سأل وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من النار ، فقيل : وما حد الغنى يا رسول الله ؟ قال : شبع يوم وليلة } . وفي بعض طرقه : { إن يكن عند أهلك ما يغديهم أو ما يعشيهم } .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن رجل عن أبي كليب العامري عن أبي سلام الحبشي عن سهل بن الحنظلية عن النبي صلى الله عليه وسلم : { من سأل مسألة يتكثر بها عن غنى فقد استكثر من النار ، فقيل : ما الغنى ؟ قال : غداء أو عشاء } . قال أبو محمد : وهذا لا شيء ، لأن أبا كبشة السلولي مجهول وابن لهيعة ساقط .

                                                                                                                                                                                          واحتج من حد الغنى بأربعين درهما بما رويناه من طريق مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن رجل من بني أسد : أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { من سأل منكم وله أوقية أو عدلها فقد سأل إلحافا } . ومن طريق هشام بن عمار عن عبد الرحمن بن أبي الرجال عن عمارة بن غزية عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : { من سأل وله قيمة أوقية فقد ألحف } . قال : " وكانت الأوقية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين درهما " . [ ص: 278 ]

                                                                                                                                                                                          ومن طريق ميمون بن مهران : أن امرأة أتت عمر بن الخطاب تسأله من الصدقة . فقال لها : إن كانت لك أوقية فلا تحل لك الصدقة ، قال ميمون : والأوقية حينئذ أربعون درهما . قال أبو محمد : الأول عمن لم يسم ، ولا يدرى صحة صحبته ، والثاني عن عمارة بن غزية وهو ضعيف . وقد كان يلزم المالكيين - المقلدين عمر رضي الله عنه في تحريم المنكوحة في العدة على ذلك الناكح في الأبد ، وقد رجع عمر عن ذلك ، وفي سائر ما يدعون أن خلافه فيه لا يحل كحد الخمر ثمانين ، وتأجيل العنين سنة - : أن يقلدوه هاهنا ، وكذلك الحنفيون ، ولكن لا يبالون بالتناقض واحتج من حد الغنى بخمسين درهما بخبر رويناه من طريق سفيان الثوري عن حكيم بن جبير عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد عن أبيه عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { من سأل وله ما يغنيه جاءت خموشا أو كدوحا في وجهه يوم القيامة ، وقيل : يا رسول الله ، وما يغنيه . قال : خمسون درهما أو حسابها من الذهب } قال سفيان : وسمعت زبيدا يحدث عن محمد بن عبد الرحمن عن أبيه روينا من طريق هشيم عن الحجاج بن أرطاة عمن حدثه ، وعن الحسن بن عطية ، وعن الحكم بن عتيبة ، قال من حدثه : عن إبراهيم النخعي عن ابن مسعود . وقال الحسن بن عطية : عن سعد بن أبي وقاص ، وقال الحكيم : عن علي بن أبي طالب ، قالوا كلهم ; لا تحل الصدقة لمن له خمسون درهما ، قال علي بن أبي طالب : أو عدلها من الذهب ؟ وهو قول النخعي - وبه يقول سفيان الثوري : والحسن بن حي . قال أبو محمد : حكيم بن جبير ساقط ، ولم يسنده زبيد ، ولا حجة في مرسل .

                                                                                                                                                                                          ولقد كان يلزم الحنفيين والمالكيين - القائلين بأن المرسل كالمسند والمعظمين خلاف الصاحب ، والمحتجين بشيخ من بني كنانة عن عمر في رد السنة الثابتة من أن المتبايعين [ ص: 279 ] لا بيع بينهما حتى يفترقا - : أن لا يخرجوا عن هذين القولين ; لأنه لا يحفظ عن أحد من الصحابة في هذا الباب خلاف لما ذكر فيه عن عمر ، وابن مسعود ، وسعد ، وعلي رضي الله عنهم ، مع ما فيه من المرسل .

                                                                                                                                                                                          وأما من حد الغنى بمائتي درهم ، وهو قول أبي حنيفة ، وهو أسقط الأقوال كلها لأنه لا حجة لهم إلا أن قالوا : إن الصدقة تؤخذ من الأغنياء وترد على الفقراء ، فهذا غني : فبطل أن يكون فقيرا . قال أبو محمد : ولا حجة لهم في هذه لوجوه . أولها : أنهم يقولون بالزكاة على من أصاب سنبلة فما فوقها ، أو من له خمس من الإبل ; أو أربعون شاة ، فمن أين وقع لهم أن يجعلوا حد الغنى مائتي درهم ، دون السنبلة ; أو دون خمس من الإبل ، أو دون أربعين شاة ، وكل ذلك تجب فيه الزكاة . وهذا هوس مفرط . وهكذا روينا عن حماد بن أبي سليمان قال : من لم يكن عنده مال تبلغ فيه الزكاة أخذ من الزكاة ؟ والثاني : أنهم يلزمهم أن من له الدور العظيمة ، والجوهر ولا يملك مائتي درهم أن يكون فقيرا يحل له أخذ الصدقة . والثالث : أنه ليس في قوله عليه السلام : { تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم } دليل ولا نص بأن الزكاة لا تؤخذ إلا من غني ولا ترد إلا على فقير ، وإنما فيه أنها تؤخذ من الأغنياء وترد على الفقراء فقط ، وهذا حق ، وتؤخذ أيضا - بنصوص أخر - من المساكين الذين ليسوا أغنياء ، وترد بتلك النصوص على أغنياء كثير ، كالعاملين ; والغارمين ; والمؤلفة قلوبهم ، وابن السبيل وإن كان غنيا في بلده .

                                                                                                                                                                                          فهذه خمس طبقات أغنياء ، لهم حق في الصدقة ؟ وقد بين الله تعالى ذلك في الصدقة في تفريقه بينهم إذ يقول : { إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها } إلى آخر الآية فذكر الله تعالى الفقراء والمساكين ثم أضاف إليهم من ليس فقيرا ، ولا مسكينا ؟ [ ص: 280 ] وتؤخذ الصدقة من المساكين الذين ليس لهم إلا خمس من الإبل ، وله عشرة من العيال ، وليس له إلا مائتا درهم ، وله عشرة من العيال ، وممن لم يصب إلا خمسة أوسق - لعلها لا تساوي خمسين درهما - وله عشرة من العيال في عام سنة .

                                                                                                                                                                                          فبطل تعلقهم بالخبر المذكور ، وظهر فساد هذا القول الذي لا يعلم أن أحدا من الصحابة رضي الله عنهم قاله .

                                                                                                                                                                                          وقد روينا من طريق ابن أبي شيبة عن حفص هو ابن غياث عن ابن جريج عن عمرو بن دينار قال : قال عمر بن الخطاب : إذا أعطيتم فأغنوا - يعني من الصدقة ، ولا نعلم لهذا القول خلافا من أحد من الصحابة . وروينا عن الحسن : أنه يعطى من الصدقة الواجبة من له الدار ، والخادم ، إذا كان محتاجا ؟ وعن إبراهيم نحو ذلك ؟ وعن سعيد بن جبير : يعطى منها من له الفرس ، والدار ; والخادم ؟ وعن مقاتل بن حبان : يعطى من له العطاء من الديوان وله فرس ؟ قال أبو محمد : ويعطى من الزكاة الكثير جدا والقليل ، لا حد في ذلك ، إذ لم يوجب الحد في ذلك قرآن ولا سنة ؟

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية