الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      [ ص: 411 ] مسألة

                                                      الاستثناء الوارد بعد جمل متعاطفة يمكن عوده لجمعها ولبعضها . ومثله ابن كج في كتابه بقوله : { والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق } إلى قوله : { إلا من تاب } فيه مذاهب

                                                      أحدها : وهو قول الشافعي كما قاله الماوردي والروياني أنه يعود إلى جميعها ما لم يخصه دليل كقوله : { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله } الآية ونقله البيهقي في سننه " في باب شهادة القاذف عن نص الشافعي ، فقال قال الشافعي : والثنيا في سياق الكلام على أول الكلام وآخره في جميع ما يذهب إليه أهل اللغة لا يفرق بين ذلك أحد انتهى

                                                      وقال في " الأم " في باب الخلافة في إجازة شهادة القاذف : قال الشافعي لمن يناظره : أرأيت رجلا لو قال : لا أكلمك أبدا ، ولا أدخل [ ص: 412 ] لك بيتا ، ولا آكل لك طعاما ، ولا أخرج معك سفرا ، وإنك لغير حميد عندي ، ولا أكسوك إن شاء الله ، أيكون الاستثناء واقعا على ما بعد غير حميد عندي ، أم على الكلام كله ؟ قال : بل على الكلام كله . انتهى .

                                                      وقال القفال الشاشي : إنه الذي جرى عليه الشافعي . وقال القاضي أبو الطيب . إنه المحكي عن الشافعي وأصحابه ، قال : وما وجدت من كلامه ما يدل عليه إلا أنه قال في كتاب " الشاهد واليمين " إذا تاب ، قبلت شهادتهم ، ذلك بين في كتاب الله تعالى ، وهذا يدل على أن الاستثناء رده إلى الفسق ورد الشهادة .

                                                      وقد استدل أبو إسحاق المروزي وغيره من أصحابنا على قبول شهادته بعموم الاستثناء ، وأنه راجع إلى الجميع انتهى .

                                                      وقال المازري : نسبه ابن القصار لمالك ، وهو الظاهر من مذاهب أصحابه ، وحكاه صاحب " المصادر " عن القاضي عبد الجبار . وقال ابن القشيري : قال القاضي : لو قلنا بالعموم فأوضح المذاهب صرفه إلى الجميع ، وهذا الراجح عند الحنابلة ونقلوه عن نص أحمد فإنه قال : في قوله صلى الله عليه وسلم : { لا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه ، ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه } قال : أرجو أن يكون الاستثناء على كله .

                                                      والثاني : أنه يعود إلى الأخيرة خاصة ، إلا أن يقوم الدليل على التعميم . وهو قول أبي حنيفة وأكثر أصحابه . واختاره الإمام فخر الدين في [ ص: 413 ] المعالم " وقال الأصفهاني في " القواعد " : إنه الأشبه ، ونقله صاحب " المعتمد " عن الظاهرية ، وحكاه صاحب عن أبي عبد الله البصري ، وأبي الحسن الكرخي ، وإليه ذهب أبو علي الفارسي ، وحكاه إلكيا الطبري وابن برهان عن الفارسي واختاره المهاباذي من النحويين في " شرح اللمع "

                                                      وقد يظن أن ذلك مذهب الشافعي ، فإن الشيخ أبا إسحاق قال : وإن قال أنت طالق طلقة وطلقة إلا طلقة ففيه وجهان : أحدهما : تطلق طلقة . والثاني : وهو المنصوص أنها تطلق طلقتين . لأن الاستثناء يرجع إلى ما يليه ، وهو الطلقة واستثناء طلقة من طلقة باطل ، فيسقط . وتبقى الطلقات . انتهى .

                                                      وقال ابن الصباغ في كتاب الطلاق : قال في " البويطي " : إذا قال : أنت طالق ثلاثا وثلاثا إلا أربعا ، وقعت ثلاثا . وهذا إنما هو لأنه أوقع جملتين ، واستثنى إحداهما بجملتها ، فلم يقع لأن الاستثناء يرجع إلى الأخير من الجملتين . أي ولو عاد إلى الجميع لوقع طلقتان ، وكأنه قال : ستا إلا أربعا ا هـ .

                                                      والجواب أنه ليس المأخذ ما ظنوه ، وإنما قاله الشافعي مفرعا على أن المفرق لا يجمع ، وهو الأصح . فإن قلنا : يجمع وقع طلقتان ، وكأنه قال : ستا إلا أربعا ، تفريعا على أن الاستثناء يرجع إلى الملفوظ ، فإن عاد إلى المنوي وقع الثلاث ثم إن هذا لبس ، ويدل لهذا قول [ ص: 414 ] القاضي أبي الطيب في باب الإقرار من " تعليقه " : لو قال : علي درهم ودرهم إلا درهما ، فالذي نص عليه الشافعي أنه يلزمه درهمان ، لأنه ذكر جملتين ، ثم عقبهما بالاستثناء ، والاستثناء يرجع لما يليه ، وهو يستغرقه ، فلا يبقى شيء فيبطل . كما لو قال : علي درهم إلا درهما لا يصح الاستثناء ، فكذلك هنا . وكذلك لو قال : أنت طالق طلقة وطلقة إلا طلقة يقع طلقتان . ونص الشافعي على هذه المسألة في كتاب إباحة الطلاق

                                                      قال القاضي : ومن أصحابنا من خرج فيها وجها أنه يصح الاستثناء ، ويلزمه درهم واحد ، وطلقة واحدة ، واحتج بأن الجملتين إذا كان بينهما حرف العطف كانتا بمنزلة الجملة الواحدة ، فهو بمنزلة أن يقول : علي درهمان إلا درهما ، وأنت طالق طلقتين إلا طلقة . وهذا خلاف النص ، وإن كان له وجه . انتهى .

                                                      وتمسك القائلون بهذا بأن الموجب لتعليق الاستثناء بالمتقدم كونه لا يفيد بنفسه ، فإذا تعلق بالأخيرة صار مفيدا فلا حاجة إلى صرفه إلى غيره . ولنا أن الجمل إذا تعاطفت صارت كالجملة الواحدة بدليل الشرط والاستثناء بالمشيئة ، فإنهما يرجعان إلى ما تقدم إجماعا ، فإن فرق بأن الشرط قد يتقدم كما يتأخر ، فيجوز أن يوقف ما قبل الآخر على الاتصال بالشرط ، ولا كذلك الاستثناء . قلنا : هذا لا يؤثر في الجمع إذ تعليقه على ما يليه لا يمنع من تعليقه على ما تقدم والذي يليه والمتقدم والمتأخر في هذا الفرق سواء .

                                                      قال القرطبي : وقد خالف أبو حنيفة أصله ، فإنه يلزمه أن لا يقبل التوبة قبل الحد ولا بعده ، كما ذهب إليه شريح ، لكنه قال بقبولها قبله لا بعده ، فخالف أصله [ ص: 415 ] تنبيه

                                                      قياس مذهب الحنفية أن الاستثناء إذا تقدم اختص بالجملة الأولى ، لأنها التي تليه ، ويحتمل خلافه

                                                      والثالث : والوقف بين الأمرين ، فيجوز أن يصرف إلى الأول وإلى المتوسط وإلى الأخير ; ولكن في الحال توقف ، والمتبع الدليل ، فإن قام دليل على انصرافه لأحدها صرنا إليه .

                                                      قال أبو الحسين بن فارس في كتاب " فقه العربية " : فإن دل الدليل على عوده إلى الجميع عاد ، كآية المحاربة ; وإن دل على منعه امتنع ، كآية القذف . قال سليم في " التقريب " : وهو مذهب الأشعرية . وحكاه ابن برهان عن القاضي واختاره الغزالي ، والإمام فخر الدين في " المنتخب " ، وصرح به في " المحصول " في الكلام على التخصيص ، وحكاه إلكيا الطبري عن اختيار إمام الحرمين . قال فقيل له : فقد قال الشافعي : إذا قال الواقف : وقفت داري على [ بني ] فلان ، وحبست أرضي على بني فلان ، وذكر نوعا آخر ، ثم قال : إلا الفساق ، فيصرف الاستثناء إلى الكل .

                                                      فأجاب بأن ذلك ليس لظهور الاستثناء في الأنواع ، ولكن للتعارض بين الأمرين . وهما احتمال عوده إلى الجميع ، أو إلى ما يليه ، والتوقف فيه ، ولا صرف مع التوقف

                                                      قال إلكيا : وهذا المأخذ غير مرضي . فإن التوقف في المستثنى ، يوجب التوقف في المستثنى منه ، حتى لا ينصرف إلى العدول أيضا . ونحن نصرف [ ص: 416 ] كل المال إلى العدول ، والتوقف يقتضي التوقف في حق الكل ، فإنا لا ندري أنهم يستحقون أم لا ، وهو كالتوقف في الميراث للحمل .

                                                      ونقل ابن القشيري والمازري عن إمام الحرمين مسلك التفصيل في التوقف ، فرأى أن الجمل إن كانت متناسبة ، والغرض منها متحد ، فاللفظ متردد ، ولا قرينة ; وإن كانت مختلفة الجهات متباينة المأخذ ، فالظاهر الاختصاص بالجملة الأخيرة لانقطاع ما بين الجمل في المعنى والغرض ; وإن أمكن انعطافه على جميعها وهذا ما اختاره إلكيا الطبري ، فقال : نعم ، لو تباينت الجمل في الأحكام بأن يذكر حكما ، ثم يأخذ في حكم آخر . فالأول : منقطع والاستثناء لا يعمل فيه ، وإن صرح به ، والواو هنا لا تعد مشركة ناسفة للنظم ، كقولك : ضرب الأمير زيدا ، وخرج إلى السفر ، وخلع على فلان . قال : وهذا حسن جدا ، وبه تهذب مذهب الشافعي ، ويغني عما عداه .

                                                      واعلم أنهم حكوا قول الوقف عن الشريف المرتضى ، وأنه يغاير مذهب القاضي من جهة أن القاضي توقف لعدم العلم بمدلوله لغة ، والمرتضى توقف لكونه عنده مشتركا بين عوده إلى الكل وعوده إلى الأخير فقط ، وهو من باب الاشتراك في المركبات لا في المفردات .

                                                      قلت : والذي حكاه صاحب " المصادر " عن الشريف المرتضى أنه يقطع بعوده إلى الجملة الأخيرة ، وتوقف في رجوعه إلى غيرها لما تقدم ، فجوز صرفه إلى الجميع ، وقصره على الأخيرة ، كمذهبه في الأمر ، هذا لفظه ، وهو أثبت منقول عنه ، لأنه على مذهبه الشيعي .

                                                      والرابع : إن كانت الجمل كلها سيقت لمقصود واحد انصرف إلى [ ص: 417 ] الجميع ، وإن سيقت لأغراض مختلفة اختص بالأخيرة . حكاه ابن برهان في " الأوسط " عن عبد الجبار

                                                      والخامس : إن ظهر أن الواو للابتداء كقوله : أكرم بني تميم والنحاة البصريين إلا البغاددة ، اختص بالأخيرة ، وإن ترددت بين العطف والابتداء فالواقف .

                                                      والسادس : إن كانت الجملة الثانية إعراضا وإضرابا عن الأولى اختص بالأخيرة ، وإلا انصرف إلى الجميع . حكاهابن برهان عن أبي الحسين البصري . والذي وجدته في " المعتمد " حكاية هذا عن عبد الجبار ، وسكت عليه أبو الحسين ، وقرر دليله .

                                                      وحكي في " المحصول " عن أبي الحسين أنه إن كان بينهما تعلق عاد إلى الجميع ، وإلا اختص بالأخير . وقال : إنه دخل التحقيق ، وإنه حق ، ثم قال ابن برهان : والحق في ذلك قول أبي الحسين البصري وهو المعتمد ، وهو مذهب الشافعي ، قال : ولم ينقل عن الشافعي نص في هذه المسألة بخصوصها ، وإنما أخذ من مذهبه في مسألة المحدود بالقذف ونحن نبين أن الشافعي إنما صار إلى ذلك لأن ذكر الجمل هناك لم يكن إضرابا عن الجملة المتقدمة ، لأن الآيات سيقت لغرض واحد ، هو الجزاء على تلك الجريمة . انتهى .

                                                      وقد اختاره ابن السمعاني في " القواطع " أيضا ، فقال : إذا لم يكن خروجا من قضية إلى قضية أخرى لا يليق بها عاد إلى الكل وإلا اختص بالأخيرة ، ونظيره : اضرب بني تميم والأشراف هم قريش ، إلا أهل البلد الفلاني . وهذا لأنه لما عدل الأول إلى مثل هذا ، وأحدهما لا يليق [ ص: 418 ] بالآخر ، أو أحدهما قضية والأخرى قضية أخرى ، دل على أنه استوفى غرضه من الأول ، لأنه لا شيء أدل على استيفاء الغرض بالكلام من العدول عنه إلى نوع آخر من الكلام . وعلى هذا إذا قال : من استقامت طريقته فأكرمه ، ومن عصاك فاضربه إلا أن يتوب ، فالاستثناء ينصرف إلى ما يليه أيضا . انتهى .

                                                      وحاصله أنه إن صلح العود إلى الكل عاد إليه ، وإلا فلا ، وهذا تحرير لمذهب الشافعي في الحقيقة كما سيأتي ، فلا ينبغي أن يعد مذهبا آخر .

                                                      وقال في المقترح : لا خلاف في صلاحية اللفظ لعوده إلى الجميع أو البعض ، وإنما النزاع في أنه هل هو ظاهر في الجميع ، ولا يحمل على الأخيرة إلا بدليل أو بالعكس ؟ فأبو حنيفة يقول بالثاني ، والشافعي بالأول .

                                                      وقال صاحب " المصادر " : الخلاف في هذه المسألة إنما نشأ من اختلافهم في الفروع من المحدود في القذف ، هل تقبل شهادته بعد التوبة أم لا ؟ على معنى أنهم اختلفوا في هذه المسألة التي هي فرع ، حداهم هذا الاختلاف الذي هو أصل لذلك الفرع ، لا أنهم ذهبوا فيما هو فرع هذا الأصل إلى مذاهب ، ثم رتبوا عليه هذا الأصل ، لأن هذا عكس الواجب من حيث إن الفرع يترتب على أصله ، ويستوي عليه لا أن يترتب الأصل على فرعه ويستوي عليه على مقدار المبتاع في أنه غير صحيح ولا يستقيم ، إذا الصحيح المستقيم أن يستوي مقدار المبتاع الموزون على الصنجة المعتدلة . انتهى .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية