الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          725 - مسألة : قال أبو محمد : وفرض على الأغنياء من أهل كل بلد أن يقوموا بفقرائهم ، ويجبرهم السلطان على ذلك ، إن لم تقم الزكوات بهم ، ولا في سائر أموال المسلمين ، فيقام لهم بما يأكلون من القوت الذي لا بد منه ، ومن اللباس للشتاء والصيف بمثل ذلك ، وبمسكن يكنهم من المطر ، والصيف والشمس ، وعيون المارة .

                                                                                                                                                                                          وبرهان ذلك : قول الله تعالى : { وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل } . وقال تعالى : { وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم } . فأوجب تعالى حق المساكين ، وابن السبيل ، وما ملكت اليمين مع حق ذي القربى وافترض الإحسان إلى الأبوين ، وذي القربى ، والمساكين ، والجار ، وما ملكت اليمين ، والإحسان يقتضي كل ما ذكرنا ، ومنعه إساءة بلا شك ؟ وقال تعالى : { ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين } . فقرن الله تعالى إطعام المسكين بوجوب الصلاة .

                                                                                                                                                                                          وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من طرق كثيرة في غاية الصحة أنه قال : { من لا يرحم الناس لا يرحمه الله } . [ ص: 282 ] قال أبو محمد : ومن كان على فضلة ورأى المسلم أخاه جائعا عريان ضائعا فلم يغثه - : فما رحمه بلا شك . وهذا خبر رواه نافع بن جبير بن مطعم ، وقيس بن أبي حاتم ، وأبي ظبيان وزيد بن وهب ، وكلهم عن جرير بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . روى أيضا معناه الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                          وحدثناه عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا موسى بن إسماعيل هو التبوذكي - ثنا المعتمر هو ابن سليمان - عن أبيه ثنا أبو عثمان النهدي أن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق حدثه { أن أصحاب الصفة كانوا ناسا فقراء ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث ، ومن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس أو سادس } أو كما قال فهذا هو نفس قولنا .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق الليث بن سعد عن عقيل بن خالد عن الزهري أن سالم بن عبد الله بن عمر أخبره أن عبد الله بن عمر أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { المسلم أخو المسلم ، لا يظلمه ولا يسلمه } . قال أبو محمد : من تركه يجوع ويعرى - وهو قادر على إطعامه وكسوته - فقد أسلمه .

                                                                                                                                                                                          حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا شيبان بن فروخ ثنا أبو الأشهب عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له ، ومن كان له فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له ، قال : فذكر من أصناف المال ما ذكر ، حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل } . قال أبو محمد : وهذا إجماع الصحابة رضي الله عنهم يخبر بذلك أبو سعيد ، وبكل ما في هذا الخبر نقول . ومن طريق أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم : { أطعموا الجائع وفكوا العاني } . [ ص: 283 ] والنصوص من القرآن ، والأحاديث الصحاح في هذا تكثر جدا .

                                                                                                                                                                                          وروينا من طريق عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن أبي وائل شقيق بن سلمة قال : قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : لو استقبلت من أمري ما استدبرت لأخذت فضول أموال الأغنياء فقسمتها على فقراء المهاجرين ؟ هذا إسناد في غاية الصحة والجلالة . ومن طريق سعيد بن منصور عن أبي شهاب عن أبي عبد الله الثقفي عن محمد بن علي بن الحسين عن محمد بن علي بن أبي طالب أنه سمع علي بن أبي طالب يقول : إن الله تعالى فرض على الأغنياء في أموالهم بقدر ما يكفي فقراءهم ، فإن جاعوا أو عروا وجهدوا فمنع الأغنياء ، وحق على الله تعالى أن يحاسبهم يوم القيامة ، ويعذبهم عليه ؟ وعن ابن عمر أنه قال : في مالك حق سوى الزكاة . وعن عائشة أم المؤمنين ، والحسن بن علي ، وابن عمر أنهم قالوا كلهم لمن سألهم : إن كنت تسأل في دم موجع ، أو غرم مفظع أو فقر مدقع فقد وجب حقك . وصح عن أبي عبيدة بن الجراح وثلاثمائة من الصحابة رضي الله عنهم أن زادهم فني فأمرهم أبو عبيدة فجمعوا أزوادهم في مزودين ، وجعل يقوتهم إياها على السواء ؟ فهذا إجماع مقطوع به من الصحابة رضي الله عنهم ، لا مخالف لهم منهم .

                                                                                                                                                                                          وصح عن الشعبي ، ومجاهد ، وطاوس ، وغيرهم ، كلهم يقول : في المال حق سوى الزكاة .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : وما نعلم عن أحد منهم خلاف هذا ، إلا عن الضحاك بن مزاحم ، فإنه قال : نسخت الزكاة كل حق في المال . قال أبو محمد : وما رواية الضحاك حجة فكيف رأيه . والعجب أن المحتج بهذا أول مخالف له فيرى في المال حقوقا سوى الزكاة ، منها النفقات على الأبوين المحتاجين ، وعلى الزوجة ، وعلى الرقيق ، وعلى الحيوان ، والديون ، والأروش ، فظهر تناقضهم .

                                                                                                                                                                                          فإن قيل : فقد رويتم من طريق ابن أبي شيبة : ثنا أبو الأحوص عن عكرمة عن ابن عباس [ ص: 284 ] قال : من أدى زكاة ماله فليس عليه جناح أن لا يتصدق . ومن طريق الحكم عن مقسم عن ابن عباس في قوله تعالى : { وآتوا حقه يوم حصاده } نسختها : العشر ، ونصف العشر . فإن رواية مقسم ساقطة لضعفه

                                                                                                                                                                                          ; وليس فيها ولو صحت خلاف لقولنا ؟ وأما رواية عكرمة فإنما هي أن لا يتصدق تطوعا ; وهذا صحيح ؟ وأما القيام بالمجهود ففرض ودين ، وليس صدقة تطوع .

                                                                                                                                                                                          ويقولون : من عطش فخاف الموت ففرض عليه أن يأخذ الماء حيث وجده وأن يقاتل عليه . قال أبو محمد : فأي فرق بين ما أباحوا له من القتال على ما يدفع به عن نفسه الموت من العطش ، وبين ما منعوه من القتال عن نفسه فيما يدفع به عنها الموت من الجوع والعري . وهذا خلاف للإجماع ، وللقرآن ، وللسنن ، وللقياس . قال أبو محمد : ولا يحل لمسلم اضطر أن يأكل ميتة ، أو لحم خنزير وهو يجد طعاما فيه فضل عن صاحبه ، لمسلم أو لذمي ; لأن فرضا على صاحب الطعام إطعام الجائع فإذا كان ذلك كذلك فليس بمضطر إلى الميتة ولا إلى لحم الخنزير - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          وله أن يقاتل عن ذلك ، فإن قتل فعلى قاتله القود ، وإن قتل المانع فإلى لعنة الله ; لأنه منع حقا ، وهو طائفة باغية ، قال تعالى : { فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله } ومانع الحق باغ على أخيه الذي له الحق ; وبهذا قاتل أبو بكر الصديق رضي الله عنه مانع الزكاة - وبالله تعالى التوفيق . تم كتاب الزكاة بحمد الله تعالى وحسن عونه .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية