الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                              الآية التاسعة والخمسون قوله تعالى : { وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما } . [ ص: 647 ]

                                                                                                                                                                                                              المسألة الأولى : قد قدمنا القول في مخاطبة الكفار بفروع الشريعة في مسائل الأصول ، وأشرنا إليه فيما سلف من هذا الكتاب ، ولا خلاف في مذهب مالك في أنهم يخاطبون . وقد بين الله تعالى في هذه الآية أنهم نهوا عن الربا وأكل المال بالباطل ، فإن كان ذلك خبرا عما نزل على محمد في القرآن ، وأنهم دخلوا في الخطاب فبها ونعمت ، وإن كان ذلك خبرا عما أنزل الله عز وجل على موسى في التوراة ، وأنهم بدلوا وحرفوا وعصوا وخالفوا فهل يجوز لنا معاملتهم ، والقوم قد أفسدوا أموالهم في دينهم أم لا ؟ فظنت طائفة أن معاملتهم لا تجوز ; وذلك لما في أموالهم من هذا الفساد

                                                                                                                                                                                                              . والصحيح جواز معاملتهم مع رباهم واقتحامهم ما حرم الله سبحانه عليهم ، فقد قام الدليل القاطع على ذلك قرآنا وسنة : قال الله تعالى : { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم } . وهذا نص في مخاطبتهم بفروع الشريعة ، { وقد عامل النبي صلى الله عليه وسلم اليهود ، ومات ودرعه مرهونة عند يهودي في شعير أخذه لعياله } . وقد روي عن عمر بن الخطاب أنه سئل عمن أخذ ثمن الخمر في الجزية والتجارة ، فقال : ولوهم بيعها وخذوا منهم عشر أثمانها ; والحاسم لداء الشك والخلاف اتفاق الأئمة على جواز التجارة مع أهل الحرب ، وقد سافر النبي صلى الله عليه وسلم إليهم تاجرا ، وهي :

                                                                                                                                                                                                              المسألة الثانية : وذلك من سفره صلى الله عليه وسلم أمر قاطع على جواز السفر إليهم والتجارة معهم . فإن قيل : كان ذلك قبل النبوة . قلنا : إنه لم يتدنس قبل النبوة بحرام ، ثبت ذلك تواترا ، ولا اعتذر عنه إذ بعث ، ولا منع منه إذ نبئ ، ولا قطعه أحد من الصحابة في حياته ولا أحد من المسلمين بعد وفاته ; فقد كانوا يسافرون في فك الأسرى ، وذلك واجب ; وفي الصلح كما أرسل عثمان وغيره ، وقد يجب وقد يكون ندبا ، فأما السفر إليهم لمجرد التجارة فذلك مباح . [ ص: 648 ]

                                                                                                                                                                                                              المسألة الثالثة : فإن قيل : فإذا قلتم إنهم مخاطبون بفروع الشريعة ، كيف يجوز مبايعتهم بمحرم عليهم ، وذلك لا يجوز للمسلم ؟ قلنا : سامح الشرع في معاملتهم وفي طعامهم رفقا بنا ، وشدد عليهم في المخاطبة تغليظا عليهم ، فإنه ما جعل علينا في الدين من حرج إلا ونفاه ، ولا كانت في العقوبة شدة إلا وأثبتها عليهم .

                                                                                                                                                                                                              المسألة الرابعة : مع أن الله شرع لهم الشرع ، وبين لهم الأحكام فقد بدلوا وابتدعوا رهبانية التزموها ، فأجرى الشرع الأحكام على ما هم عليه في بيع وطعام حتى في اعتقادهم في أولادهم وبناتهم ، سواء تصرفوا في ذلك بشرعتهم أو بعصبيتهم ، حتى قال مالك ; وهي :

                                                                                                                                                                                                              المسألة الخامسة : يجوز أن يؤخذ منهم في الصلح أبناؤهم ونساؤهم إذا كان الصلح للعامين ونحوهما ؟ لأنهما مهادنة ، ولو كان دائما أو لمدة كثيرة لم يجز ، لأنه يكون لهم من الصلح مثل ما لآبائهم . وقال ابن حبيب : لا يجوز ذلك ; فراعى مالك اعتقادهم في الأولاد والنساء ، كما راعى اعتقادهم في الطعام ، فإن كان ذلك شرطا مع بطارقتهم يعني باتفاق منهم جاز .

                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية