الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        باب غزوة أحد وقول الله تعالى وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال والله سميع عليم وقوله جل ذكره ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون وقوله ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم تستأصلونهم قتلا بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين وقوله ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا الآية

                                                                                                                                                                                                        3815 حدثنا إبراهيم بن موسى أخبرنا عبد الوهاب حدثنا خالد عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد هذا جبريل آخذ برأس فرسه عليه أداة الحرب [ ص: 401 ]

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        [ ص: 401 ] : قوله : ( باب غزوة أحد ) سقط لفظ " باب " من رواية أبي ذر . و " أحد " بضم الهمزة والمهملة جبل معروف بينه وبين المدينة أقل من فرسخ . وهو الذي قال فيه - صلى الله عليه وسلم - : جبل يحبنا ونحبه كما سيأتي في آخر باب من هذه الغزوة مع مزيد فوائد فيما يتعلق به . ونقل السهيلي عن الزبير بن بكار في فضل المدينة أن قبر هارون عليه السلام بأحد ، وأنه قدم مع موسى في جماعة من بني إسرائيل حجاجا فمات هناك . قلت : وسند الزبير بن بكار في ذلك ضعيف جدا من جهة شيخه محمد بن الحسن بن زبالة ، ومنقطع أيضا وليس بمرفوع . وكانت عنده الوقعة المشهورة في شوال سنة ثلاث باتفاق الجمهور ، وشذ من قال : سنة أربع . قال ابن إسحاق : لإحدى عشرة ليلة خلت منه وقيل : لسبع ليال وقيل : لثمان وقيل : لتسع وقيل : في نصفه ، وقال مالك : كانت بعدبدر بسنة ، وفيه تجوز ؛ لأن بدرا كانت في رمضان باتفاق فهي بعدها بسنة وشهر لم يكمل ، ولهذا قال مرة أخرى : كانت بعد الهجرة بأحد وثلاثين شهرا . وكان السبب فيها ما ذكر ابن إسحاق عن شيوخه وموسى بن عقبة عن ابن شهاب وأبو الأسود عن عروة قالوا : وهذا ملخص ما ذكره موسى بن عقبة في سياق القصة كلها قال : لما رجعت قريش استجلبوا من استطاعوا من العرب وسار بهم أبو سفيان حتى نزلوا ببطن الوادي من قبل أحد . وكان رجال من المسلمين أسفوا على ما فاتهم من مشهد بدر وتمنوا لقاء العدو ، ورأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة الجمعة رؤيا ، فلما أصبح قال : رأيت البارحة في منامي بقرا تذبح ، والله خير وأبقى ، ورأيت سيفي ذا الفقار انقصم من عند ظبته - أو قال : به فلول - فكرهته وهما مصيبتان ، ورأيت أني في درع حصينة وأني مردف كبشا . قالوا : وما أولتها ؟ قال : أولت البقر بقرا يكون فينا ، وأولت الكبش كبش الكتيبة ، وأولت الدرع الحصينة المدينة ، فامكثوا ، فإن دخل القوم الأزقة قاتلناهم ورموا من فوق البيوت . فقال أولئك القوم : يا نبي الله كنا نتمنى هذا اليوم ، وأبى كثير من الناس إلا الخروج فلما صلى الجمعة وانصرف دعا باللأمة فلبسها ، ثم أذن في الناس بالخروج ، فندم ذوو الرأي منهم فقالوا : يا رسول الله امكث كما أمرتنا . فقال : ما ينبغي لنبي إذا أخذ لأمة الحرب أن يرجع حتى يقاتل نزل فخرج بهم وهم ألف رجل وكان المشركون ثلاثة آلاف حتى نزل بأحد ، ورجع عنه عبد الله بن أبي ابن سلول في ثلاثمائة فبقي في سبعمائة ، فلما رجع عبد الله سقط في أيدي طائفتين من المؤمنين وهما بنو حارثة وبنو سلمة ، وصف المسلمون بأصل أحد ، وصف المشركون بالسبخة وتعبوا للقتال ، وعلى خيل [ ص: 402 ] المشركين - وهي مائة فرس - خالد بن الوليد ، وليس مع المسلمين فرس وصاحب لواء المشركين طلحة بن عثمان ، وأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن جبير على الرماة وهم خمسون رجلا وعهد إليهم أن لا يتركوا منازلهم ، وكان صاحب لواء المسلمين مصعب بن عمير ، فبارز طلحة بن عثمان فقتله ، وحمل المسلمون على المشركين حتى أجهضوهم عن أثقالهم ، وحملت خيل المشركين فنضحتهم الرماة بالنبل ثلاث مرات ، فدخل المسلمون عسكر المشركين فانتهبوهم ، فرأى ذلك الرماة فتركوا مكانهم ، ودخل العسكر ، فأبصر ذلك خالد بن الوليد ومن معه فحملوا على المسلمين في الخيل فمزقوهم ، وصرخ صارخ : قتل محمد أخراكم ، فعطف المسلمون يقتل بعضهم بعضا وهم لا يشعرون ، وانهزم طائفة منهم إلى جهة المدينة وتفرق سائرهم ووقع فيهم القتل ; وثبت نبي الله حين انكشفوا عنه وهو يدعوهم في أخراهم ، حتى رجع إليه بعضهم وهو عند المهراس في الشعب ، وتوجه النبي - صلى الله عليه وسلم - يلتمس أصحابه ، فاستقبله المشركون فرموا وجهه فأدموه وكسروا رباعيته ، فمر مصعدا في الشعب ومعه طلحة والزبير ، وقيل : معه طائفة من الأنصار منهم سهل بن بيضاء والحارث بن الصمة ، وشغل المشركون بقتلى المسلمين يمثلون بهم يقطعون الآذان والأنوف والفروج ويبقرون البطون وهم يظنون أنهم أصابوا النبي - صلى الله عليه وسلم - وأشراف أصحابه ، فقال أبو سفيان يفتخر بآلهته : اعل هبل . فناداه عمر : الله أعلى وأجل . ورجع المشركون إلى أثقالهم فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه : إن ركبوا وجعلوا الأثقال تتبع آثار الخيل ، فهم يريدون البيوت ، وإن ركبوا الأثقال وتجنبوا الخيل فهم يريدون الرجوع ، فتبعهم سعد بن أبي وقاص ، ثم رجع فقال : رأيت الخيل مجنوبة . فطابت أنفس المسلمين ورجعوا إلى قتلاهم فدفنوهم في ثيابهم ولم يغسلوهم ولم يصلوا عليهم ، وبكى المسلمون على قتلاهم ، فسر المنافقون وظهر غش اليهود وفارت المدينة بالنفاق ، فقالت اليهود : لو كان نبيا ما ظهروا عليه . وقالت المنافقون : لو أطاعونا ما أصابهم هذا .

                                                                                                                                                                                                        قال العلماء : وكان في قصة أحد وما أصيب به المسلمون فيها من الفوائد والحكم الربانية أشياء عظيمة : منها تعريف المسلمين سوء عاقبة المعصية وشؤم ارتكاب النهي ، لما وقع من ترك الرماة موقفهم الذي أمرهم الرسول أن لا يبرحوا منه . ومنها أن عادة الرسل أن تبتلى وتكون لها العاقبة كما تقدم في قصة هرقل مع أبي سفيان ، والحكمة في ذلك أنهم لو انتصروا دائما دخل في المؤمنين من ليس منهم ولم يتميز الصادق من غيره ، ولو انكسروا دائما لم يحصل المقصود من البعثة ، فاقتضت الحكمة الجمع بين الأمرين لتمييز الصادق من الكاذب ، وذلك أن نفاق المنافقين كان مخفيا عن المسلمين ، فلما جرت هذه القصة وأظهر أهل النفاق ما أظهروه من الفعل والقول عاد التلويح تصريحا ، وعرف المسلمون أن لهم عدوا في دورهم فاستعدوا لهم وتحرزوا منهم . ومنها أن في تأخير النصر في بعض المواطن هضما للنفس وكسرا لشماختها ، فلما ابتلي المؤمنون صبروا وجزع المنافقون . ومنها أن الله هيأ لعباده المؤمنين منازل في دار كرامته لا تبلغها أعمالهم ، فقيض لهم أسباب الابتلاء والمحن ليصلوا إليها . ومنها أن الشهادة من أعلى مراتب الأولياء فساقها إليهم . ومنها أنه أراد إهلاك أعدائه فقيض لهم الأسباب التي يستوجبون بها ذلك من كفرهم وبغيهم وطغيانهم في أذى أوليائه ، فمحص بذلك ذنوب المؤمنين ، ومحق بذلك الكافرين . ثم ذكر المصنف آيات من آل عمران في هذا الباب وفيما بعده كلها تتعلق بوقعة أحد ، وقد قال ابن إسحاق : أنزل الله في شأن أحد ستين آية من آل عمران ، وروى ابن أبي حاتم من طريق المسور بن مخرمة قال : قلت لعبد الرحمن بن عوف : أخبرني عن قصتكم يوم أحد . قال . اقرأ العشرين ومائة من آل عمران تجدها : وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال إلى قوله : أمنة نعاسا .

                                                                                                                                                                                                        [ ص: 403 ] قوله : ( وقول الله تعالى : وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال والله سميع عليم ) وقوله : غدوت أي خرجت أول النهار ، والعامل في إذ مضمر تقديره واذكر إذ غدوت ، وقوله : تبوئ المؤمنين أي تنزلهم ، وأصله من المآب وهو المرجع ، والمقاعد جمع مقعد والمراد به مكان القعود . وروى الطبري من طريق سعيد عن قتادة قال : " غدا نبي الله من أهله يوم أحد يبوئ المؤمنين مقاعد للقتال " ومن طريق مجاهد والسدي وغيرهما نحوه ، ومن طريق الحسن أن ذلك كان يوم الأحزاب ووهاه .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين الأصل توهنوا فحذفت الواو ، والوهن الضعف يقال : وهن بالفتح يهن بالكسر في المضارع ، وهذا هو الأفصح ، ويستعمل وهن لازما ومتعديا ، قال تعالى : وهن العظم مني وفي الحديث " وهنتهم حمى يثرب " والأعلون جمع أعلى ، وقوله : إن كنتم مؤمنين محذوف الجواب وتقديره فلا تهنوا ولا تحزنوا . وأخرج الطبري من طريق مجاهد في قوله : ولا تهنوا أي لا تضعفوا . ومن طريق الزهري قال : " كثر في أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - القتل والجراح حتى خلص إلى كل امرئ منهم نصيب ، فاشتد حزنهم ، فعزاهم الله أحسن تعزية " ومن طريق قتادة نحوه قال : " فعزاهم وحثهم على قتال عدوهم ونهاهم عن العجز " ومن طريق ابن جريح قال في قوله : ولا تهنوا أي لا تضعفوا في أمر عدوكم ولا تحزنوا في أنفسكم فإنكم أنتم الأعلون قال : والسبب فيها أنهم لما تفرقوا ثم رجعوا إلى الشعب قالوا : ما فعل فلان ما فعل فلان ؟ فنعى بعضهم بعضا ، وتحدثوا بينهم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قتل فكانوا في هم وحزن ، فبينما هم كذلك إذ علا خالد بن الوليد بخيل المشركين فوقهم ، فثاب نفر من المسلمين رماة فصعدوا فرموا خيل المشركين حتى هزمهم الله ، وعلا المسلمون الجبل والتقوا بالنبي صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                                        ومن طريق العوفي عن ابن عباس قال : أقبل خالد بن الوليد يريد أن يعلو الجبل عليهم فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : اللهم لا يعلون علينا ، فأنزل الله تعالى : ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وقوله تعالى : ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم ) تستأصلونهم قتلا بإذنه الآية إلى قوله والله ذو فضل على المؤمنين ) أخرج الطبري من طريق السدي وغيره أن المراد بالوعد قوله - صلى الله عليه وسلم - للرماة : إنكم ستظهرون عليهم فلا تبرحوا من مكانكم حتى آمركم وقد ذكر المصنف قصة الرماة في هذا الباب ، وسأذكر شرحها إن شاء الله تعالى . ومن طريق قتادة ومجاهد في قوله : إذ تحسونهم أي تقتلونهم ، وقول المصنف في تفسير تحسونهم : تستأصلونهم هو كلام أبي عبيدة ، وأخرج الطبري من طريق السدي قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - للرماة : إنا لن نزال غالبين ما ثبتم مكانكم وكان أول من برز طلحة بن عثمان فقتل ، ثم حمل المسلمون على المشركين فهزموهم ، وحمل خالد بن الوليد وكان في خيل المشركين على الرماة فرموه بالنبل فانقمع ، ثم ترك الرماة مكانهم ودخلوا العسكر في طلب الغنيمة ، فصاح خالد في خيله فقتل من بقي من الرماة ، منهم أميرهم عبد الله بن جبير . ولما رأى المشركون خيلهم ظاهرة تراجعوا فشدوا على المسلمين فهزموهم وأثخنوا فيهم القتل . وقوله : حتى إذا فشلتم أي جبنتم وتنازعتم في الأمر أي اختلفتم ، وحتى حرف جر وهي متعلقة بمحذوف أي دام لكم ذلك إلى وقت فشلكم ، ويجوز أن تكون ابتدائية داخلة على الجملة الشرطية وجوابها محذوف ، وقوله : ثم صرفكم عنهم فيه إشارة إلى رجوع المسلمين عن المشركين بعد أن ظهروا [ ص: 404 ] عليهم لما وقع من الرماة من الرغبة في الغنيمة ، وإلى ذلك الإشارة بقوله - منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة قال السدي عن عبد خير قال : قال عبد الله بن مسعود : ما كنت أرى أحدا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يريد الدنيا حتى نزلت هذه الآية يوم أحد : منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة . وقوله : ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا الآية أخرج مسلم من طريق مسروق قال : " سألنا عبد الله بن مسعود عن هؤلاء الآيات قال : أما إنا قد سألنا عنها فقيل لنا : إنه لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ، ترد أنهار الجنة ، وتأكل من ثمارها " الحديث .

                                                                                                                                                                                                        ثم ذكر المصنف تلو هذه الآيات أحاديث كالمفسرة للآيات المذكورة .

                                                                                                                                                                                                        ( تنبيه ) : وقع في رواية أبي الوقت والأصيلي هنا قبل حديث عقبة بن عامر حديث ابن عباس " قال النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد : هذا جبريل آخذ برأس فرسه " الحديث ، وهو وهم من وجهين : أحدهما : أن هذا [ ص: 405 ] الحديث تقدم بسنده ومتنه في " باب شهود الملائكة بدرا " ولهذا لم يذكره هنا أبو ذر ولا غيره من متقني رواة البخاري ، ولا استخرجه الإسماعيلي ولا أبو نعيم . ثانيهما : أن المعروف في هذا المتن يوم بدر كما تقدم لا يوم أحد ، والله المستعان .

                                                                                                                                                                                                        الحديث الثاني حديث البراء بن عازب في قصة الرماة




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية