الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                باب من فضائل أبي ذر رضي الله عنه

                                                                                                                2473 حدثنا هداب بن خالد الأزدي حدثنا سليمان بن المغيرة أخبرنا حميد بن هلال عن عبد الله بن الصامت قال قال أبو ذر خرجنا من قومنا غفار وكانوا يحلون الشهر الحرام فخرجت أنا وأخي أنيس وأمنا فنزلنا على خال لنا فأكرمنا خالنا وأحسن إلينا فحسدنا قومه فقالوا إنك إذا خرجت عن أهلك خالف إليهم أنيس فجاء خالنا فنثا علينا الذي قيل له فقلت أما ما مضى من معروفك فقد كدرته ولا جماع لك فيما بعد فقربنا صرمتنا فاحتملنا عليها وتغطى خالنا ثوبه فجعل يبكي فانطلقنا حتى نزلنا بحضرة مكة فنافر أنيس عن صرمتنا وعن مثلها فأتيا الكاهن فخير أنيسا فأتانا أنيس بصرمتنا ومثلها معها قال وقد صليت يا ابن أخي قبل أن ألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاث سنين قلت لمن قال لله قلت فأين توجه قال أتوجه حيث يوجهني ربي أصلي عشاء حتى إذا كان من آخر الليل ألقيت كأني خفاء حتى تعلوني الشمس فقال أنيس إن لي حاجة بمكة فاكفني فانطلق أنيس حتى أتى مكة فراث علي ثم جاء فقلت ما صنعت قال لقيت رجلا بمكة على دينك يزعم أن الله أرسله قلت فما يقول الناس قال يقولون شاعر كاهن ساحر وكان أنيس أحد الشعراء قال أنيس لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم ولقد وضعت قوله على أقراء الشعر فما يلتئم على لسان أحد بعدي أنه شعر والله إنه لصادق وإنهم لكاذبون قال قلت فاكفني حتى أذهب فأنظر قال فأتيت مكة فتضعفت رجلا منهم فقلت أين هذا الذي تدعونه الصابئ فأشار إلي فقال الصابئ فمال علي أهل الوادي بكل مدرة وعظم حتى خررت مغشيا علي قال فارتفعت حين ارتفعت كأني نصب أحمر قال فأتيت زمزم فغسلت عني الدماء وشربت من مائها ولقد لبثت يا ابن أخي ثلاثين بين ليلة ويوم ما كان لي طعام إلا ماء زمزم فسمنت حتى تكسرت عكن بطني وما وجدت على كبدي سخفة جوع قال فبينا أهل مكة في ليلة قمراء إضحيان إذ ضرب على أسمختهم فما يطوف بالبيت أحد وامرأتين منهم تدعوان إسافا ونائلة قال فأتتا علي في طوافهما فقلت أنكحا أحدهما الأخرى قال فما تناهتا عن قولهما قال فأتتا علي فقلت هن مثل الخشبة غير أني لا أكني فانطلقتا تولولان وتقولان لو كان هاهنا أحد من أنفارنا قال فاستقبلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وهما هابطان قال ما لكما قالتا الصابئ بين الكعبة وأستارها قال ما قال لكما قالتا إنه قال لنا كلمة تملأ الفم وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى استلم الحجر وطاف بالبيت هو وصاحبه ثم صلى فلما قضى صلاته قال أبو ذر فكنت أنا أول من حياه بتحية الإسلام قال فقلت السلام عليك يا رسول الله فقال وعليك ورحمة الله ثم قال من أنت قال قلت من غفار قال فأهوى بيده فوضع أصابعه على جبهته فقلت في نفسي كره أن انتميت إلى غفار فذهبت آخذ بيده فقدعني صاحبه وكان أعلم به مني ثم رفع رأسه ثم قال متى كنت هاهنا قال قلت قد كنت هاهنا منذ ثلاثين بين ليلة ويوم قال فمن كان يطعمك قال قلت ما كان لي طعام إلا ماء زمزم فسمنت حتى تكسرت عكن بطني وما أجد على كبدي سخفة جوع قال إنها مباركة إنها طعام طعم فقال أبو بكر يا رسول الله ائذن لي في طعامه الليلة فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وانطلقت معهما ففتح أبو بكر بابا فجعل يقبض لنا من زبيب الطائف وكان ذلك أول طعام أكلته بها ثم غبرت ما غبرت ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إنه قد وجهت لي أرض ذات نخل لا أراها إلا يثرب فهل أنت مبلغ عني قومك عسى الله أن ينفعهم بك ويأجرك فيهم فأتيت أنيسا فقال ما صنعت قلت صنعت أني قد أسلمت وصدقت قال ما بي رغبة عن دينك فإني قد أسلمت وصدقت فأتينا أمنا فقالت ما بي رغبة عن دينكما فإني قد أسلمت وصدقت فاحتملنا حتى أتينا قومنا غفارا فأسلم نصفهم وكان يؤمهم أيماء بن رحضة الغفاري وكان سيدهم وقال نصفهم إذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أسلمنا فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فأسلم نصفهم الباقي وجاءت أسلم فقالوا يا رسول الله إخوتنا نسلم على الذي أسلموا عليه فأسلموا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم غفار غفر الله لها وأسلم سالمها الله حدثنا إسحق بن إبراهيم الحنظلي أخبرنا النضر بن شميل حدثنا سليمان بن المغيرة حدثنا حميد بن هلال بهذا الإسناد وزاد بعد قوله قلت فاكفني حتى أذهب فأنظر قال نعم وكن على حذر من أهل مكة فإنهم قد شنفوا له وتجهموا حدثنا محمد بن المثنى العنزي حدثني ابن أبي عدي قال أنبأنا ابن عون عن حميد بن هلال عن عبد الله بن الصامت قال قال أبو ذر يا ابن أخي صليت سنتين قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم قال قلت فأين كنت توجه قال حيث وجهني الله واقتص الحديث بنحو حديث سليمان بن المغيرة وقال في الحديث فتنافرا إلى رجل من الكهان قال فلم يزل أخي أنيس يمدحه حتى غلبه قال فأخذنا صرمته فضممناها إلى صرمتنا وقال أيضا في حديثه قال فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت وصلى ركعتين خلف المقام قال فأتيته فإني لأول الناس حياه بتحية الإسلام قال قلت السلام عليك يا رسول الله قال وعليك السلام من أنت وفي حديثه أيضا فقال منذ كم أنت هاهنا قال قلت منذ خمس عشرة وفيه فقال أبو بكر أتحفني بضيافته الليلة

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                قوله : ( فثنا علينا الذي قيل له ) هو بنون ثم مثلثة أي أشاعه وأفشاه .

                                                                                                                [ ص: 24 ] قوله : ( فقربنا صرمتنا ) هي بكسر الصاد ، وهي القطعة من الإبل ، وتطلق أيضا على القطعة من الغنم .

                                                                                                                قوله : ( فنافر أنيس عن صرمتنا وعن مثلها ، فأتيا الكاهن فخير أنيسا ، فأتانا أنيس بصرمتنا ، ومثلها معها ) قال أبو عبيد وغيره في شرح هذا : المنافرة المفاخرة والمحاكمة ، فيفخر كل واحد من الرجلين على الآخر ، ثم يتحاكمان إلى رجل ليحكم أيهما خير وأعز نفرا ، وكانت هذه المفاخرة في الشعر أيهما أشعر كما بينه في الرواية الأخرى .

                                                                                                                وقوله : ( نافر عن صرمتنا وعن مثلها ) معناه تراهن هو وآخر أيهما أفضل ، وكان الرهن صرمة ذا ، وصرمة ذاك ، فأيهما كان أفضل أخذ الصرمتين ، فتحاكما إلى الكاهن ، فحكم بأن أنيسا أفضل ، وهو معنى قوله : فخير أنيسا أي جعله الخيار والأفضل .

                                                                                                                قوله : ( حتى إذا كان من آخر الليل ألقيت كأني خفاء ) هو بكسر الخاء المعجمة وتخفيف الفاء وبالمد ، وهو الكساء ، وجمعه أخفية ، ككساء وأكسية قال القاضي : ورواه بعضهم عن ابن ماهان ( جفاء ) بجيم مضمومة ، وهو غثاء السيل ، والصواب المعروف هو الأول .

                                                                                                                قوله : ( فراث علي ) أي أبطأ .

                                                                                                                قوله : ( أقراء الشعر ) أي طرقه وأنواعه ، وهي بالقاف والراء وبالمد .

                                                                                                                قوله : ( أتيت مكة فتضعفت رجلا منهم ) يعني نظرت إلى أضعفهم فسألته ، لأن الضعيف مأمون [ ص: 25 ] الغائلة غالبا . وفي رواية ابن ماهان ( فتضيفت ) بالياء ، وأنكرها القاضي وغيره . قالوا : لا وجه له هنا .

                                                                                                                قوله : ( كأني نصب أحمر ) يعني من كثرة الدماء التي سالت في بصرهم والنصب الصنم . والحجر كانت الجاهلية تنصبه وتذبح عنده ، فيحمر بالدم ، وهو بضم الصاد وإسكانها ، وجمعه أنصاب ، ومنه قوله تعالى : وما ذبح على النصب .

                                                                                                                قوله : ( حتى تكسرت عكن بطني ) يعني انثنت لكثرة السمن وانطوت .

                                                                                                                قوله : ( وما وجدت على كبدي سخفة جوع ) هي بفتح السين المهملة وضمها وإسكان الخاء المعجمة ، وهي رقة الجوع وضعفه وهزاله .

                                                                                                                [ ص: 26 ] قوله : ( فبينا أهل مكة في ليلة قمراء إضحيان إذ ضرب على أسمختهم ، فما يطوف بالبيت أحد ، وامرأتين منهم تدعوان إسافا ونائلة ) أما قوله : ( قمراء ) فمعناه مقمرة طالع قمرها ، والإضحيان بكسر الهمزة والحاء وإسكان الضاد المعجمة بينهما وهي المضيئة ، ويقال : ليلة إضحيان وإضحيانة وضحياء ويوم ضحيان . وقوله : ( على أسمختهم ) هكذا هو في جميع النسخ ، وهو جمع صماخ ، وهو الخرق الذي في الأذن يفضي إلى الرأس ، يقال : صماخ بالصاد ، وسماخ بالسين الصاد أفصح وأشهر ، والمراد بأصمختهم هنا آذانهم أي ناموا ، قال الله تعالى : فضربنا على آذانهم أي أنمناهم .

                                                                                                                قوله : ( وامرأتين ) هكذا هو في معظم النسخ بالياء ، وفي بعضها : ( وامرأتان ) بالألف ، والأول منصوب بفعل محذوف أي ورأيت امرأتين .

                                                                                                                قوله : ( فما تناهتا عن قولهما ) أي ما انتهيا عن قولهما ، بل دامتا عليه . ووقع في أكثر النسخ ( فما تناهتا على قولهما ) وهو صحيح أيضا ، وتقديره ما تناهتا من الدوام على قولهما .

                                                                                                                قوله : ( فقلت : هن مثل الخشبة غير أني لا أكني ) الهن والهنة بتخفيف نونهما هو كناية عن كل شيء ، وأكثر ما يستعمل كناية عن الفرج والذكر . فقال لهما : ومثل الخشبة بالفرج ، وأراد بذلك سب إساف ونائلة وغيظ الكفار بذلك .

                                                                                                                قوله : ( فانطلقتا تولولان ، وتقولان : لو كان هاهنا أحد من أنفارنا ) الولولة الدعاء بالويل . والأنفار جمع نفر أو نفير ، وهو الذي ينفر عند الاستغاثة . ورواه بعضهم : أنصارنا ، وهو بمعناه ، وتقديره لو كان هنا أحد من أنصارنا لانتصر لنا .

                                                                                                                قوله : ( كلمة تملأ الفم ) أي عظيمة لا شيء أقبح منها كالشيء الذي يملأ الشيء ولا يسع غيره . وقيل : معناه لا يمكن ذكرها وحكايتها ، كأنها تسد فم حاكيها وتملؤه لاستعظامها .

                                                                                                                [ ص: 27 ] قوله : ( فكنت أول من حياه بتحية الإسلام ، فقال : وعليك رحمة الله ) هكذا هو في جميع النسخ ( وعليك ) من غير ذكر السلام ، وفيه دلالة لأحد الوجهين لأصحابنا أنه إذا قال في رد السلام : وعليك يجزئه ; لأن العطف يقتضي كونه جوابا ، والمشهور من أحواله صلى الله عليه وسلم وأحوال السلف رد السلام بكماله ، فيقول : وعليكم السلام ورحمة الله أو رحمته وبركاته ، وسبق إيضاحه في بابه .

                                                                                                                قوله : ( فقدعني صاحبه ) أي كفني . يقال : قدعه وأقدعه إذا كفه ومنعه ، وهو بدال مهملة .

                                                                                                                قوله صلى الله عليه وسلم في زمزم : ( إنها طعام طعم ) هو بضم الطاء وإسكان العين أي تشبع شاربها كما يشبعه الطعام .

                                                                                                                قوله : ( غبرت ما غبرت ) أي بقيت ما بقيت .

                                                                                                                قوله صلى الله عليه وسلم : ( إنه قد وجهت لي أرض ) أي رأيت جهتها .

                                                                                                                قوله صلى الله عليه وسلم : ( لا أراها إلا يثرب ) ضبطوه ( أراها ) بضم الهمزة وفتحها ، وهذا كان قبل تسمية المدينة ( طابة وطيبة ) ، وقد جاء بعد ذلك حديث في النهي عن تسميتها ( يثرب ) ، أو أنه سماها باسمها المعروف عند الناس حينئذ .

                                                                                                                قوله : ( ما بي رغبة عن دينكما ) أي لا أكرهه بل أدخل فيه .

                                                                                                                قوله : ( فاحتملنا ) يعني حملنا أنفسنا ومتاعنا على إبلنا وسرنا .

                                                                                                                قوله : ( إيماء بن رحضة الغفاري ) قوله : ( إيماء ) ممدود ، والهمزة في أوله مكسورة على المشهور وحكى القاضي فتحها أيضا ، وأشار إلى ترجيحه ، وليس براجح . و ( رحضة ) براء وحاء مهملة وضاد معجمة مفتوحات .

                                                                                                                قوله : ( شنفوا له وتجهموا ) هو بشين معجمة مفتوحة ثم نون مكسورة ثم فاء أي أبغضوه ، ويقال : رجل شنف مثال حذر أي شانئ مبغض . وقوله : ( تجهموا ) أي قابلوه بوجوه غليظة كريهة .

                                                                                                                قوله : ( فأين كنت توجه ) هو بفتح التاء والجيم ، وفي بعض النسخ ( توجه ) بضم التاء وكسر الجيم ، وكلاهما صحيح .

                                                                                                                [ ص: 28 ] قوله : ( فتنافرا إلى رجل من الكهان ) أي تحاكما إليه .

                                                                                                                قوله : ( أتحفني بضيافته ) أي خصني بها ، وأكرمني بذلك . قال أهل اللغة : التحفة بإسكان الحاء وفتحها هو ما يكرم به الإنسان ، والفعل منه أتحفه .




                                                                                                                الخدمات العلمية