الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ذكر فتح دمشق .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال سيف بن عمر : لما ارتحل أبو عبيدة من اليرموك فنزل بالجنود على مرج الصفر ، وهو عازم على حصار دمشق إذ أتاه الخبر بقدوم مدد لهم من حمص ، وجاءه الخبر بأنه قد اجتمع طائفة كبيرة من الروم بفحل من أرض فلسطين ، وهو لا يدري بأي الأمرين يبدأ ، فكتب إلى عمر في ذلك ، فجاء الجواب أن ابدأ بدمشق فإنها حصن الشام وبيت مملكتهم ، فانهد لها واشغلوا عنكم أهل فحل بخيول تكون تلقاءهم ، فإن فتحها الله قبل دمشق فذلك الذي نحب ، وإن فتحت دمشق قبلها فسر أنت ومن معك واستخلف على دمشق ، فإذا فتح الله عليكم فحلا فسر أنت وخالد إلى حمص واترك عمرا وشرحبيل على الأردن وفلسطين . قال : فسرح أبو عبيدة إلى فحل عشرة أمراء ، مع كل أمير خمسة أمراء ، وعلى الجميع عمارة بن مخشي ، صحابي ، فساروا من مرج الصفر إلى فحل ، فوجدوا الروم هنالك قريبا من ثمانين ألفا ، وقد أرسلوا المياه حولهم حتى أردغت الأرض ، فسموا ذلك الموضع الردغة ، وفتحها الله على المسلمين ، فكانت أول حصن فتح قبل دمشق ، على ما سيأتي تفصيله ، ولله الحمد .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 578 ] وبعث أبو عبيدة جيشا يكون بين دمشق وبين فلسطين ، وبعث ذا الكلاع في جيش يكون بين دمشق وبين حمص ; ليرد من يرد إليهم من المدد من جهة هرقل ، ثم سار أبو عبيدة من مرج الصفر قاصدا دمشق ، وقد جعل خالد بن الوليد في القلب ، وركب أبو عبيدة وعمرو بن العاص في المجنبتين ، وعلى الخيل عياض بن غنم ، ، وعلى الرجالة شرحبيل ابن حسنة ، فقدموا دمشق وعليها نسطاس بن نسطورس ، فنزل خالد بن الوليد على الباب الشرقي وإليه باب كيسان أيضا ، ونزل أبو عبيدة على باب الجابية الكبير ، ونزل يزيد بن أبي سفيان على باب الجابية الصغير ، ونزل عمرو بن العاص وشرحبيل ابن حسنة على بقية أبواب البلد ، ونصبوا المجانيق والدبابات وقد أرصد أبو عبيدة أبا الدرداء على جيش ببرزة يكونون ردءا له ، وكذا الذي بينه وبين حمص ، وحاصروها حصارا شديدا سبعين ليلة ، وقيل : أربعة أشهر . وقيل : ستة أشهر . وقيل : أربعة عشر شهرا . فالله أعلم . وأهل دمشق ممتنعون منهم غاية الامتناع ، ويرسلون إلى ملكهم هرقل وهو مقيم بحمص يطلبون منه المدد ، فلا يمكن وصول المدد إليهم من ذي الكلاع الذي قد أرصده أبو عبيدة ، رضي الله عنه بين دمشق وبين حمص - عن دمشق ليلة - فلما أيقن أهل دمشق أنه لا يصل [ ص: 579 ] إليهم مدد أبلسوا وفشلوا وضعفوا ، وقوي المسلمون واشتد حصارهم ، وجاء فصل الشتاء واشتد البرد وعسر الحال وعسر القتال ، فقدر الله الكبير المتعالي ، ذو العزة والجلال ، أن ولد لبطريق دمشق مولود في تلك الليالي ، فصنع لهم طعاما وسقاهم بعده شرابا ، وباتوا عنده في وليمته قد أكلوا وشربوا وتعبوا ، فناموا عن مواقفهم ، واشتغلوا عن أماكنهم ، وفطن لذلك أمير الحرب خالد بن الوليد ، فإنه كان لا ينام ، ولا يترك أحدا ينام ، بل مراصد لهم ليلا ونهارا ، وله عيون وقصاد يرفعون إليه أحوال المقاتلة صباحا ومساء ، فلما رأى خمدة تلك الليلة ، وأنه لا يقاتل على السور أحد ، كان قد أعد سلاليم من حبال ، فجاء هو وأصحابه من الصناديد الأبطال ، مثل القعقاع بن عمرو ومذعور بن عدي ، وقد أحضر جيشه عند الباب ، وقال لهم : إذا سمعتم تكبيرنا فوق السور فارقوا إلينا . ثم نهد هو وأصحابه فقطعوا الخندق سباحة بقرب في أعناقهم ، ثم نصبوا تلك السلالم وأثبتوا أعاليها بالشرفات ، وأكدوا أسافلها خارج الخندق ، وصعدوا فيها ، فلما استووا على السور رفعوا أصواتهم بالتكبير ، وجاء المسلمون فصعدوا في تلك السلالم وانحدر خالد وأصحابه الشجعان من السور إلى البوابين فقتلوهم ، وقطع خالد وأصحابه أغاليق الباب بالسيوف وفتحوا الباب ، فدخل الجيش الخالدي من الباب الشرقي ، ولما سمع أهل البلد التكبير ثاروا ، وذهب كل فريق إلى أماكنهم من السور ، لا يدرون ما الخبر ، فجعل كلما قدم أحد من أصحاب الباب الشرقي قتله أصحاب خالد ، ودخل خالد البلدة عنوة ، فقتل من [ ص: 580 ] وجده ، وذهب أهل كل باب فسألوا من أميرهم الذي عند الباب من خارج الصلح - وقد كان المسلمون دعوهم إلى المشاطرة فيأبون عليهم - فلما دعوهم إلى ذلك أجابوهم ، ولم يعلم بقية الصحابة ما صنع خالد ، ودخل المسلمون من كل جانب وباب ، فوجدوا خالدا وهو يقتل من وجده ، فقالوا له : إنا قد أمناهم . فقال : إني فتحتها عنوة . والتقت الأمراء في وسط البلد عند كنيسة المقسلاط بالقرب من درب الريحان اليوم . هكذا ذكره سيف بن عمر وغيره ، وهو المشهور أن خالدا فتح الباب قسرا .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال آخرون : بل الذي فتحها عنوة أبو عبيدة ، وقيل : يزيد بن أبي سفيان ، وخالد صالح أهل البلد . فعكسوا المشهور المعروف . والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد اختلف الصحابة ، فقال قائلون : هي صلح . يعني على ما صالحهم الأمير في نفس الأمر ، وهو أبو عبيدة . وقال آخرون : بل هي عنوة . لأن خالدا افتتحها بالسيف أولا كما ذكرنا ، فلما أحسوا بذلك ذهبوا إلى بقية الأمراء ، ومنهم أبو عبيدة فصالحوهم ، فاتفقوا فيما بينهم على أن جعلوا نصفها صلحا ونصفها عنوة ، فملك أهلها نصف ما كان بأيديهم وأقروا عليه ، واستقرت يد الصحابة على النصف . ويقوي هذا ما ذكره سيف بن عمر من أن الصحابة كانوا يطلبون إليهم أن يصالحوهم على المشاطرة فيأبون ، فلما أحسوا باليأس أنابوا إلى ما كانت الصحابة دعوهم إليه فبادروا إلى إجابتهم . ولم يعلم الصحابة بما كان من خالد إليهم . والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 581 ] ولهذا أخذ الصحابة نصف الكنيسة العظمى التي كانت بدمشق ، وتعرف بكنيسة يوحنا ، فاتخذوا الجانب الشرقي منها مسجدا ، وأبقوا لهم النصف الغربي كنيسة ، وقد أبقوا لهم مع ذلك أربع عشرة كنيسة أخرى مع نصف الكنيسة المعروفة بيوحنا ، والتي هي جامع دمشق اليوم ، وقد كتب لهم بذلك خالد بن الوليد كتابا ، وكتب فيه شهادته أبو عبيدة وعمرو بن العاص ويزيد وشرحبيل ; إحداها كنيسة المقسلاط التي اجتمع عندها أمراء الصحابة ، وكانت مبنية على ظهر السوق الكبير ، وهذه القناطر المشاهدة في سوق الصابونيين من بقية القناطر التي كانت تحتها ، ثم بادت فيما بعد ، وأخذت حجارتها في العمارات . الثانية : كنيسة كانت في رأس درب القرشيين ، وكانت صغيرة . قال الحافظ ابن عساكر : وبعضها باق إلى اليوم ، وقد تشعثت . الثالثة : كانت بدار البطيخ العتيقة . قلت : وهي داخل البلد بقرب الكوشك ، وأظنها هي المسجد الذي قبل هذا المكان المذكور ، فإنها خربت من دهر . والله أعلم . الرابعة : كانتبدرب بني نصر بين درب الحبالين ودرب التميمي . قال الحافظ ابن عساكر : وقد أدركت بعض بنيانها ، وقد خرب أكثرها . الخامسة : كنيسة بولص . قال ابن عساكر : وكانت غربي القيسارية الفخرية ، وقد أدركت من بنيانها بعض أساس الحنية . السادسة : كانت في موضع دار الوكالة ، وتعرف اليوم بكنيسة القلانسيين . قلت : والقلانسيين هي الخواصين اليوم . السابعة : التي بدرب السقيل اليوم ، وتعرف بكنيسة حميد بن درة سابقا ; لأن هذا الدرب كان إقطاعا له ، وهو حميد بن عمرو بن مساحق القرشي العامري ، ودرة أمه ، وهي [ ص: 582 ] درة بنت أبي هاشم بن عتبة بن ربيعة ، فأبوها خال معاوية . وكان قد أقطع هذا الدرب فنسبت هذه الكنيسة إليه ، وكان مسلما ، ولم يبق لهم اليوم سواها ، وقد خرب أكثرها . ولليعقوبية منهم كنيسة داخل باب توما بين رحبة خالد - وهو خالد بن أسيد بن أبي العيص - وبين درب طلحة بن عمرو بن مرة الجهني ، وهي الكنيسة الثامنة ، وكانت لليعقوبيين كنيسة أخرى فيما بين السوسي وسوق علي . قال ابن عساكر : قد بقي من بنائها بعضه ، وقد خربت منذ دهر . وهى الكنيسة التاسعة . وأما العاشرة فهي الكنيسة المصلبة ، قال الحافظ ابن عساكر : وهي باقية إلى اليوم بين الباب الشرقي وباب توما بقرب النيبطن عند السور . والناس اليوم يقولون : النيبطون . قال ابن عساكر : وقد خرب أكثرها . هكذا قال ، وقد خربت هذه الكنيسة وهدمت في أيام صلاح الدين فاتح القدس بعد الثمانين وخمسمائة بعد موت الحافظ ابن عساكر ، رحمه الله . الحادية عشرة : كنيسة مريم داخل الباب الشرقي . قال ابن عساكر : وهى من أكبر ما بقي بأيديهم . قلت : ثم خربت بعد موته بدهر في أيام الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداري ، على ما سيأتي بيانه . الثانية عشرة : كنيسة اليهود التي بأيديهم اليوم في حارتهم ، ومحلها معروف بالقرب من الحير وتسميه الناس اليوم بستان القط ، وكانت لهم كنيسة في درب البلاغة ، لم تكن داخلة في [ ص: 583 ] العهد ، فهدمت فيما بعد ، وجعل مكانها المسجد المعروف بمسجد ابن الشهرزوري ، والناس اليوم يقولون : درب الشاذوري .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قلت : وقد أخربت لهم كنيسة كانوا قد أحدثوها لم يذكرها أحد من علماء التاريخ ، لا ابن عساكر ولا غيره ، وكان إخرابها في حدود سنة سبع عشرة وسبعمائة ، ولم يتعرض الحافظ ابن عساكر لذكر كنيسة السامرة بمرة . ثم قال ابن عساكر : ومما أحدث - يعني النصارى - كنيسة بناها أبو جعفر المنصور لبني قطيطا في الفورنق عند قناة صالح قريبا من دار بهادرآص اليوم ، وقد أخربت فيما بعد ، وجعلت مسجدا يعرف بمسجد الجينيق ، وهو مسجد أبي اليمن . قال : ومما أحدث كنيستا العباد ; إحداهما عند دار ابن الماشكي ، وقد جعلت مسجدا ، والأخرى التي في رأس درب النقاشين ، وقد جعلت مسجدا . انتهى ما ذكره الحافظ ابن عساكر الدمشقي ، رحمه الله .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قلت : وظاهر سياق سيف بن عمر يقتضي أن فتح دمشق وقع في سنة ثلاث عشرة ، ولكن نص سيف على ما نص عليه الجمهور من أنها فتحت في نصف رجب سنة أربع عشرة . وكذا حكاه الحافظ ابن عساكر من طريق محمد [ ص: 584 ] بن عائذ القرشي الدمشقي ، عن الوليد بن مسلم ، عن عثمان بن حصن بن علاق ، عن يزيد بن عبيدة ، قال : فتحت دمشق سنة أربع عشرة . ورواه دحيم ، عن الوليد ، قال : سمعت أشياخا يقولون : إن دمشق فتحت سنة أربع عشرة . وهكذا قال سعيد بن عبد العزيز وأبو معشر ومحمد بن إسحاق ومعمر والأموي - وحكاه عن مشايخه - وابن الكلبي وخليفة بن خياط وأبو عبيد القاسم بن سلام ; أن فتح دمشق كان في سنة أربع عشرة . وزاد سعيد بن عبد العزيز وأبو معشر والأموي : وكانت اليرموك بعدها بسنة . وقال بعضهم : بل كان فتحها في شوال سنة أربع عشرة . وقال خليفة : حاصرهم أبو عبيدة في رجب وشعبان ورمضان وشوال ، وتم الصلح في ذي القعدة . وقال الأموي في " مغازيه " : كانت وقعة أجنادين في جمادى الأولى ، ووقعة فحل في ذي القعدة من سنة ثلاث عشرة . يعني : ووقعة دمشق سنة أربع عشرة . وقال دحيم عن الوليد : حدثني الأموي أن وقعة فحل وأجنادين كانت في خلافة أبي بكر ، ثم مضى المسلمون إلى دمشق ، فنزلوا عليها في رجب سنة ثلاث عشرة . يعني ففتحوها في سنة أربع عشرة . وكانت اليرموك سنة خمس عشرة ، وقدم عمر إلى بيت المقدس سنة ست عشرة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية