الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الكلام في قسمة الغنائم قال الله تعالى : واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وقال في آية أخرى : فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا فروي عن ابن عباس ومجاهد أن هذه الآية ناسخة لقوله تعالى : قل الأنفال لله والرسول وذلك لأنه قد كان جعل النبي صلى الله عليه وسلم ينفل ما أحرزه بالقتال لمن شاء من الناس لا حق لأحد فيه إلا من جعله النبي صلى الله عليه وسلم له ، وأن ذلك كان يوم بدر ؛ وقد ذكرنا حديث سعد في قصة السيف الذي استوهبه من النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر فقال النبي صلى الله عليه وسلم : هذا السيف ليس لي ولا لك ، ثم لما نزل : قل الأنفال لله والرسول دعاه وقال : إنك سألتني هذا السيف وليس هو لي ولا لك وقد جعله الله لي وجعلته لك ، وحديث أبي [ ص: 230 ] هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال : حدثنا بشر بن موسى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثنا أبو الأحوص عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : كان يوم بدر تعجل ناس من المسلمين فأصابوا من الغنائم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لم تحل الغنائم لقوم سود الرءوس قبلكم ، كان النبي إذا غنم هو وأصحابه جمعوا غنائمهم فتنزل من السماء نار فتأكلها ، فأنزل الله تعالى : لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا وقال : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا أحمد بن حنبل قال : حدثنا أبو نوح قال : أخبرنا عكرمة بن عمار قال : حدثنا سماك الحنفي قال : حدثني ابن عباس قال : حدثني عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : لما كان يوم بدر فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم الفداء فأنزل الله تعالى : ما كان لنبي أن يكون له أسرى إلى قوله : لمسكم فيما أخذتم من الفداء ، ثم أحل لهم الغنائم . فأخبر في هذين الخبرين أن الغنائم إنما أحلت بعد وقعة بدر ، وهذا مرتب على قوله تعالى : قل الأنفال لله والرسول وأنها كانت موكولة إلى رأي النبي صلى الله عليه وسلم .

فهذه الآية أول آية أبيحت بها الغنائم على جهة تخيير النبي صلى الله عليه وسلم في إعطائها من رأى ، ثم نزل قوله تعالى : واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وقوله تعالى : فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا وأن فداء الأسارى كان بعد نزول قوله تعالى : قل الأنفال لله والرسول وإنما كان النكير عليهم في أخذ الفداء من الأسرى بديا ، ولا دلالة فيه على أن الغنائم لم تكن قد أحلت قبل ذلك على الوجه الذي جعلت للنبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه جائز أن تكون الغنائم مباحة وفداء الأسرى محظورا ، وكذلك يقول أبو حنيفة إنه لا تجوز مفاداة أسرى المشركين . ويدل على أن الجيش لم يكونوا استحقوا قسمة الغنيمة بينهم يوم بدر إلا بجعل النبي ذلك لهم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخمس غنائم بدر ولم يبين سهام الفارس والراجل إلى أن نزل قوله تعالى : واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه فجعل بهذه الآية أربعة أخماس الغنيمة للغانمين والخمس للوجوه المذكورة ونسخ به ما كان للنبي صلى الله عليه وسلم من الأنفال إلا ما كان شرطه قبل إحراز الغنيمة ، نحو أن يقول : من أصاب شيئا فهو له ، ومن قتل قتيلا فله سلبه ؛ لأن ذلك لم ينتظمه قوله تعالى : واعلموا أنما غنمتم من شيء إذ لم يحصل ذلك غنيمة لغير آخذه أو قاتله .

وقد اختلف في النفل بعد إحراز الغنيمة .

[ ص: 231 ] ذكر الخلاف فيه

قال أصحابنا والثوري : { لا نفل بعد إحراز الغنيمة إنما النفل أن يقول : من قتل قتيلا فله سلبه ومن أصاب شيئا فهو له } . وقال الأوزاعي : { في رسول الله أسوة حسنة ، كان ينفل في البدأة الربع وفي الرجعة الثلث } . وقال مالك والشافعي : { يجوز أن ينفل بعد إحراز الغنيمة على وجه الاجتهاد } . قال الشيخ : ولا خلاف في جواز النفل قبل إحراز الغنيمة ، نحو أن يقول : من أخذ شيئا فهو له ومن قتل قتيلا فله سلبه ، وقد روى حبيب بن مسلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نفل في بدأته الربع وفي رجعته الثلث بعد الخمس . فأما التنفيل في البدأة فقد ذكرنا اتفاق الفقهاء عليه ، وأما قوله : في الرجعة الثلث ، فإنه يحتمل وجهين :

أحدهما : ما يصيب السرية في الرجعة بأن يقول لهم : ما أصبتم من شيء فلكم الثلث بعد الخمس ؛ ومعلوم أن ذلك ليس بلفظ عموم في سائر الغنائم وإنما هي حكاية فعل النبي صلى الله عليه وسلم في شيء بعينه لم يبين كيفيته ، وجائز أن يكون معناه ما ذكرناه من قوله للسرية في الرجعة وجعل لهم في الرجعة أكثر مما جعله في البدأة ؛ لأن في الرجعة يحتاج إلى حفظ الغنائم وإحرازها ويكون من حواليهم الكفار متأهبين مستعدين للقتال لانتشار الخبر بوقوع الجيش إلى أرضهم .

والوجه الآخر : أنه جائز أن يكون ذلك بعد إحراز الغنيمة ، وكان ذلك في الوقت الذي كانت الغنيمة كلها للنبي صلى الله عليه وسلم فجعلها لمن شاء منهم ، وذلك منسوخ بما ذكرنا .

فإن قيل : ذكر في حديث حبيب بن مسلمة الثلث بعد الخمس ، فهذا يدل على أن ذلك كان بعد قوله : واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه قيل له : لا دلالة فيه على ما ذكرت ؛ لأنه لم يذكر أنه الخمس المستحق لأهله من جملة الغنيمة بقوله تعالى : فأن لله خمسه وجائز أن يكون ذلك على خمس من الغنيمة لا فرق بينه وبين الثلث والنصف ولما احتمل حديث حبيب بن مسلمة ما وصفنا لم يجز الاعتراض به على ظاهر قوله تعالى : واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه إذ كان قوله ذلك يقتضي إيجاب الأربعة الأخماس للغانمين اقتضاءه إيجاب الخمس لأهله المذكورين ، فمتى أحرزت الغنيمة فقد ثبت حق الجميع فيها بظاهر الآية ، فغير جائز أن يجعل شيء منها لغيره على غير مقتضى الآية إلا بما يجوز بمثله تخصيص الآية . وحدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا مسدد قال : حدثنا يحيى عن عبيد الله قال : حدثني نافع عن عبد الله بن عمر قال : بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية فبلغت سهامنا اثني [ ص: 232 ] عشر بعيرا ونفلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعيرا بعيرا ، فبين في هذا الحديث سهمان الجيش وأخبر أن النفل لم يكن من جملة الغنيمة وإنما كان بعد السهمان وذلك من الخمس .

ويدل على أن النفل بعد إحراز الغنيمة لا يجوز إلا من الخمس ما حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا الوليد بن عتبة قال : حدثنا الوليد قال : حدثنا عبد الله بن العلاء أنه سمع أبا سلام بن الأسود يقول ، قال : سمعت عمرو بن عبسة قال : صلى بنا رسول الله إلى بعير من المغنم ، فلما سلم أخذ وبرة من جنب البعير ثم قال : ولا يحل لي من غنائمكم مثل هذا إلا الخمس والخمس مردود فيكم ، فأخبر صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن جائز التصرف إلا في الخمس من الغنائم وأن الأربعة الأخماس للغانمين ، وفي ذلك دليل على أن ما أحرز من الغنيمة فهو لأهلها ولا يجوز التنفيل منه .

وفي هذا الحديث دليل على أن ما لا قيمة له ولا يتمانعه الناس من نحو النواة والتبنة والخرق التي يرمى بها يجوز للإنسان أن يأخذه وينفله ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ وبرة من جنب بعير من المغنم وقال : { لا يحل لي من غنائمكم مثل هذا } يعني في أن يأخذه لنفسه وينتفع به أو يجعله لغيره دون جماعتهم ؛ إذ لم تكن لتلك الوبرة قيمة .

فإن قيل فقد قال : لا يحل لي مثل هذا قيل له : إنما أراد : مثل هذا فيما يتمانعه الناس لا ذاك بعينه ؛ لأنه قد أخذه . ويدل على ما ذكرنا ما رواه ابن المبارك قال : حدثنا خالد الحذاء عن عبد الله بن شقيق عن رجل من بلقين ذكر قصة قال : قلنا : يا رسول الله ما تقول في هذا المال ؟ قال : خمسه لله وأربعة أخماسه للجيش قال : قلت : هل أحق أحد به من أحد ؟ قال : لو انتزعت سهمك من جنبك لم تكن بأحق به من أخيك المسلم وروى أبو عاصم النبيل عن وهب أبي خالد الحمصي قال : حدثتني أم حبيبة عن أبيها العرباض بن سارية أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ وبرة فقال : ما لي فيكم هذه ما لي فيه إلا الخمس ، فأدوا الخيط والمخيط فإنه عار ونار وشنار على صاحبه يوم القيامة .

وحدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن محمد بن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، ذكر غنائم هوازن وقال : ثم دنا النبي صلى الله عليه وسلم من بعير فأخذ وبرة من سنامه ثم قال : يا أيها الناس إنه ليس لي من هذا الفيء شيء ولا هذا ورفع أصبعيه : إلا الخمس والخمس مردود عليكم ، فأدوا الخيط والمخيط ، فقام رجل في يده كبة من شعر فقال : أخذت هذه لأصلح بها بردة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لك فقال : أما إذ بلغت ما أرى فلا أرب لي فيها ، ونبذها . [ ص: 233 ] فهذه الأخبار موافقة لظاهر الكتاب ، فهو أولى مما يخالفه من حديث حبيب بن مسلمة مع احتمال حديثه للتأويل الذي وصفناه ، وجمعنا يمنع أن يكون في الأربعة الأخماس حق لغير الغانمين ويخبر النبي صلى الله عليه وسلم فيها أنه لا حق له فيها .

وروى محمد بن سيرين : أن أنس بن مالك كان مع عبيد الله بن أبي بكرة في غزاة فأصابوا سبيا ، فأراد عبيد الله أن يعطي أنسا من السبي قبل أن يقسم ، فقال أنس : لا ، ولكن اقسم ثم أعطني من الخمس فقال عبيد الله : لا ، إلا من جميع الغنائم فأبى أنس أن يقبل وأبى عبيد الله أن يعطيه من الخمس . وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال : حدثنا إبراهيم بن عبد الله : حدثنا حجاج : حدثنا حماد عن محمد بن عمرو عن سعيد بن المسيب أنه قال : { لا نفل بعد النبي صلى الله عليه وسلم } قال الشيخ أيده الله : يجوز أن يريد به من جملة الغنيمة ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد كانت له الأنفال ثم نسخ بآية القسمة وهذا مما يحتج به لصحة مذهبنا لأن ظاهره يقتضي أن لا يكون لأحد نفل بعد النبي صلى الله عليه وسلم في عموم الأحوال ، إلا أنه قد قامت الدلالة في أن الإمام إذا قال من قتل قتيلا فله سلبه أنه يصير ذلك له بالاتفاق ، فخصصناه وبقي الباقي على مقتضاه في أنه إذا لم يقل ذلك الإمام فلا شيء له ، وقد روي عن سعيد بن المسيب قال : كان الناس يعطون النفل من الخمس .

فإن قيل : قد أعطى النبي صلى الله عليه وسلم من غنائم حنين صناديد العرب عطايا نحو الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن والزبرقان بن بدر وأبي سفيان بن حرب وصفوان بن أمية ، ومعلوم أنه لم يعطهم ذلك من سهمه من الغنيمة وسهمه من الخمس ؛ إذ لم يكن يتسع لهذه العطايا لأنه أعطى كل واحد من هؤلاء وغيرهم مائة من الإبل ، ولم يكن ليعطيهم من بقية سهام الخمس سوى سهمه لأنها للفقراء ولم يكونوا هؤلاء فقراء ، فثبت أنه أعطاهم من جملة الغنيمة ، ولما لم يستأذنهم فيه ، دل على أنه أعطاهم على وجه النفل وأنه قد كان له أن ينفل قيل له : إن هؤلاء القوم كانوا من المؤلفة قلوبهم ، وقد جعل الله تعالى للمؤلفة قلوبهم سهما من الصدقات ، وسبيل الخمس سبيل الصدقة لأنه مصروف إلى الفقراء كالصدقات المصروفة إليهم ، فجائز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أعطاهم من جملة الخمس كما يعطيهم من الصدقات .

وقد اختلف في سلب القتيل ، فقال أصحابنا ومالك والثوري : { السلب من غنيمة الجيش إلا أن يكون الأمير قال من قتل قتيلا فله سلبه } وقال الأوزاعي والليث والشافعي : { السلب للقاتل وإن لم يقل الأمير } قال الشيخ أيده الله : قوله عز وجل : واعلموا أنما غنمتم من شيء [ ص: 234 ] يقتضي وجوب الغنيمة لجماعة الغانمين ، فغير جائز لأحد منهم الاختصاص بشيء منها دون غيره .

فإن قيل : ينبغي أن يدل على أن السلب غنيمة قيل له : " غنمتم " هي التي جازوها باجتماعهم وتوازرهم على القتال وأخذ الغنيمة ، فلما كان قتله لهذا القتيل وأخذه سلبه بتظافر الجماعة وجب أن يكون غنيمة ، ويدل عليه أنه لو أخذ سلبه من غير قتل لكان غنيمة ؛ إذ لم يصل إلى أخذه إلا بقوتهم ، وكذلك من لم يقاتل وكان قائما في الصف ردءا لهم مستحق الغنيمة ويصير غانما ؛ لأن بظهره ومعاضدته حصلت وأخذت ، وإذا كان كذلك وجب أن يكون السلب غنيمة فيكون كسائر الغنائم ويدل عليه أيضا قوله تعالى : فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا والسلب مما غنمه الجماعة فهو لهم ويدل على ذلك من جهة السنة ما حدثنا أحمد بن خالد الجزوري : حدثنا محمد بن يحيى : حدثنا محمد بن المبارك وهشام بن عمار قالا : حدثنا عمرو بن واقد عن موسى بن يسار عن مكحول عن قتادة بن أبي أمية قال : نزلنا دابق وعلينا أبو عبيدة بن الجراح ، فبلغ حبيب بن مسلم أن صاحب قبرص قد خرج يريد طريق أذربيجان معه زبرجد وياقوت ولؤلؤ وديباج ، فخرج في جبل حتى قتله في الدرب وجاء بما كان معه إلى عبيدة ، فأراد أن يخمسه فقال حبيب : يا أبا عبيدة لا تحرمني رزقا رزقنيه الله فإن رسول صلى الله عليه وسلم الله جعل السلب للقاتل ، فقال معاذ بن جبل : مهلا يا حبيب إني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : إنما للمرء ما طابت به نفس إمامه . فقوله صلى الله عليه وسلم : إنما للمرء ما طابت به نفس إمامه يقتضي حظر ما لم تطب نفس إمامه ، فمن لم تطب نفس إمامه لم يحل له السلب ، لا سيما وقد أخبر معاذ أن ذلك في شأن السلب .

فإن قيل : قد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم جماعة منهم أبو قتادة وطلحة وسمرة بن جندب وغيرهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من قتل قتيلا فله سلبه .

وروى سلمة بن الأكوع وابن عباس وعوف بن مالك وخالد بن الوليد : أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل السلب للقاتل وهذا يدل على معنيين :

أحدهما : أنه يقتضي أن يستحق القاتل السلب ، والثاني : أنه فسر أن معنى قوله في حديث معاذ : إنما للمرء ما طابت به نفس إمامه أن نفسه قد طابت للقاتل بذلك وهو إمام الأئمة . قيل له : قوله صلى الله عليه وسلم ليس للمرء إلا ما طابت به نفس إمامه المفهوم منه أميره الذي يلزمه طاعته ، وكذلك عقل معاذ وهو راوي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ولو أراد بذلك نفسه لقال إنما للمرء ما طابت به نفسي ، فهذا الذي ذكره هذا السائل تأويل ساقط لا معنى له .

وأما الأخبار المروية في أن السلب للقاتل فإنما [ ص: 235 ] ذلك كلام خرج على الحال التي حض فيها للقتال ، وكان يقول ذلك تحريضا لهم وتضرية على العدو ، كما روي أنه قال : من أصاب شيئا فهو له ، وكما حدثنا أحمد بن خالد الجزوري : حدثنا محمد بن يحيى الدهاني : حدثنا موسى بن إسماعيل : حدثنا غالب بن حجرة قال : حدثتني أم عبد الله وهي ابنة الملقام بن التلب عن أبيها عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من أتى بمول فله سلبه ؛ ومعلوم أن ذلك حكم مقصور على الحال في تلك الحرب خاصة ؛ إذ لا خلاف أنه لا يستحق السلب بأخذه موليا ، كقوله يوم فتح مكة : من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن دخل المسجد فهو آمن ومن دخل بيته فهو آمن ومن ألقى سلاحه فهو آمن . ويدل على أن السلب غير مستحق للقاتل إلا أن يكون قد قال الأمير من قتل قتيلا فله سلبه ، ما حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا أحمد بن حنبل قال : حدثنا الوليد بن مسلم : حدثني صفوان بن عمرو عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه عن عوف بن مالك الأشجعي قال : خرجت مع زيد بن حارثة في غزوة مؤتة ورافقني مددي من أهل اليمن ليس معه غير سيفه ، فنحر رجل من المسلمين جزورا ، فسأله المددي طائفة من جلده ، فأعطاه إياه ، فاتخذه كهيئة الدرق ، ومضينا فلقينا جموع الروم وفيهم رجل على فرس له أشقر عليه سرج مذهب وسلاح مذهب ، فجعل الرومي يغري بالمسلمين وقعد له المددي خلف صخرة ، فمر به الرومي فعرقب فرسه وخر وعلاه فقتله وحاز فرسه وسلاحه ، فلما فتح الله عز وجل للمسلمين بعث إليه خالد بن الوليد فأخذ منه السلب ؛ قال عوف : فأتيته فقلت : يا خالد أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالسلب للقاتل ؟ فقال : بلى ولكن استكثرته ، فقلت : لتردنه إليه أو لأعرفنكها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبى أن يرد عليه ؛ قال عوف : فاجتمعنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقصصت عليه قصة المددي وما فعل خالد ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا خالد ما حملك على ما صنعت ؟ قال : يا رسول الله استكثرته ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا خالد رد عليه ما أخذت منه قال عوف : فقلت : دونك يا خالد ألم أف لك ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وما ذاك ؟ فأخبرته ، قال : فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا خالد لا ترد عليه هل أنتم تاركو أمرائي لكم صفوة أمرهم وعليهم كدره . حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا أحمد بن حنبل قال : حدثنا الوليد قال : سألت ثورا عن هذا الحديث ، فحدثني عن خالد بن معدان عن جبير بن نفير عن عوف بن مالك الأشجعي نحوه . فلما قال النبي صلى الله عليه وسلم : يا خالد لا ترد عليه دل ذلك على [ ص: 236 ] أن السلب غير مستحق للقاتل ؛ لأنه لو استحقه لما جاز أن يمنعه ، ودل ذلك على أن قوله بديا ادفعه إليه لم يكن على جهة الإيجاب وإنما كان على وجه النفل ، وجائز أن يكون ذلك من الخمس ويدل عليه ما روى يوسف الماجشون قال : حدثني صالح بن إبراهيم عن أبيه عن عبد الرحمن بن عوف أن معاذ بن عفراء ومعاذ بن عمرو بن الجموح قتلا أبا جهل ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : كلاكما قتله وقضى بسلبه لمعاذ بن عمرو . فلما قضى به لأحدهما مع إخباره أنهما قتلاه دل على أنهما لم يستحقاه بالقتل ، ألا ترى أنه لو قال من قتل قتيلا فله سلبه ثم قتله رجلان استحقا السلب نصفين ؟ فلو كان القاتل مستحقا للسلب لوجب أن يكون لو وجد قتيل لا يعرف قاتله أن لا يكون سلبه من جملة الغنيمة بل يكون لقطة لأن له مستحقا بعينه ، فلما اتفق الجميع على أن سلب من لم يعرف قاتله في المعركة من جملة الغنيمة دل على أن القاتل لا يستحقه . وقد قال الشافعي : { إن القاتل لا يستحق السلب في الإدبار وإنما يستحقه في الإقبال } ، فالأثر الوارد في السلب لم يفرق بين حال الإقبال والإدبار . فإن احتج بالخبر فقد خالفه ، وإن احتج بالنظر فالنظر يوجب أن يكون غنيمة للجميع لاتفاقهم على أنه إذا قتله في حال الإدبار لم يستحقه وكان غنيمة ، والمعنى الجامع بينهما أنه قتله بمعاونة الجميع ولم يتقدم من الأمير قول في استحقاقه .

ويدل على أن القاتل إنما يستحقه إذا تقدم من الأمير قول قبل إحراز الغنيمة أنه لو قال : من قتل قتيلا فله سلبه ، ثم قتله مقبلا أو مدبرا استحق سلبه ولم يختلف حال الإقبال والإدبار ، فلو كان السلب مستحقا بنفس القتل لما اختلف حكمه في حال الإدبار والإقبال . وقد روي عن عمر في قتيل البراء بن مالك أنا كنا لا نخمس السلب وأن سلب البراء قد بلغ مالا ولا أرانا إلا خامسيه .

واختلف في الأمير إذا قال : من أصاب شيئا فهو له ، فقال أصحابنا والثوري والأوزاعي : { هو كما قال ولا خمس فيه } ، وكره مالك أن يقول من أصاب شيئا فهو له لأنه قتال بجعل وقال الشافعي : { يخمس ما أصابه إلا سلب المقتول } . قال أبو بكر : لما اتفقوا على جواز أن يقول : من أصاب شيئا فهو له ، وأنه يستحق وجب أن لا خمس فيه وأن لا يجوز قطع حقوق أهل الخمس عنه كما جاز قطع حقوق سائر الغانمين عنه . وأيضا فإن قوله : من أصاب شيئا فهو له بمنزلة من قتل قتيلا فله سلبه ، فلما لم يجب في السلب الخمس إذا قال الأمير ذلك كذلك سائر الغنيمة . وأيضا فإن الله تعالى إنما أوجب الخمس فيما صار غنيمة لهم بقوله تعالى : [ ص: 237 ] واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وهذا لم يصر غنيمة لهم لأن قول الأمير في ذلك جائز على الجيش ، فلما لم يصر غنيمة لهم وجب أن لا خمس فيه .

التالي السابق


الخدمات العلمية