الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 8400 ) فصل : وكل ذنب تلزم فاعله التوبة منه ، ومتى تاب منه ، قبل الله توبته ; بدليل قوله تعالى : { والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم } الآية .

                                                                                                                                            وقال : { ومن يعمل سوءا أو [ ص: 193 ] يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما } . ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { التائب من الذنب كمن لا ذنب له } . وقال عمر رضي الله عنه : بقية عمر المؤمن لا قيمة له ، يدرك فيه ما فات ، ويحيي فيه ما أمات ، ويبدل الله سيئاته حسنات . والتوبة على ضربين ; باطنة ، وحكمية ، فأما الباطنة ، فهي ما بينه وبين ربه تعالى ، فإن كانت المعصية لا توجب حقا عليه في الحكم ، كقبلة أجنبية ، أو الخلوة بها ، وشرب مسكر ، أو كذب ، فالتوبة منه الندم ، والعزم على أن لا يعود .

                                                                                                                                            وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { الندم توبة } . وقيل : التوبة النصوح تجمع أربعة أشياء ; الندم بالقلب ، والاستغفار باللسان ، وإضمار أن لا يعود ، ومجانبة خلطاء السوء . وإن كانت توجب عليه حقا لله تعالى ، أو لآدمي ; كمنع الزكاة والغصب ، فالتوبة منه بما ذكرنا ، وترك المظلمة حسب إمكانه ، بأن يؤدي الزكاة ، ويرد المغصوب ، أو مثله إن كان مثليا ، وإلا قيمته . وإن عجز عن ذلك ، نوى رده متى قدر عليه .

                                                                                                                                            فإن كان عليه فيها حق في البدن ، فإن كان حقا لآدمي ، كالقصاص ، وحد القذف ، اشترط في التوبة التمكن من نفسه ، وبذلها للمستحق ، وإن كان حقا لله تعالى ، كحد الزنى ، وشرب الخمر ، فتوبته أيضا بالندم ، والعزم على ترك العود ، ولا يشترط الإقرار به ، فإن كان ذلك لم يشتهر عنه ، فالأولى له ستر نفسه ، والتوبة فيما بينه وبين الله تعالى ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { من أتى شيئا من هذه القاذورات ، فليستتر بستر الله تعالى ، فإنه من أبدى لنا صفحته أقمنا عليه الحد } .

                                                                                                                                            فإن الغامدية حين أقرت بالزنى ، لم ينكر عليها النبي صلى الله عليه وسلم ذلك . وإن كانت معصية مشهورة ، فذكر القاضي أن الأولى الإقرار به ، ليقام عليه الحد ; لأنه إذا كان مشهورا ، فلا فائدة في ترك إقامة الحد عليه . والصحيح أن ترك الإقرار أولى ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم عرض للمقر عنده بالرجوع عن الإقرار ; فعرض لماعز ، وللمقر عنده بالسرقة بالرجوع ، مع اشتهاره عنه بإقراره ، وكره الإقرار ، حتى إنه قيل : لما قطع السارق : كأنما أسف وجهه رمادا .

                                                                                                                                            ولم يرد الأمر بالإقرار ، ولا الحث عليه في كتاب ولا سنة ، ولا يصح له قياس ، إنما ورد الشرع بالستر ، والاستتار ، والتعريض للمقر بالرجوع عن الإقرار . وقال لهزال ، وكان هو الذي أمر ماعزا بالإقرار : { يا هزال ، لو سترته بثوبك ، كان خيرا لك } .

                                                                                                                                            وقال أصحاب الشافعي : توبة هذا إقراره ليقام عليه الحد وليس بصحيح ; لما ذكرنا ، ولأن التوبة توجد حقيقتها بدون الإقرار ، وهي تجب ما قبلها ، كما ورد في الأخبار ، مع ما دلت عليه الآيات في مغفرة الذنوب بالاستغفار ، وترك الإصرار . وأما البدعة ، فالتوبة منها بالاعتراف بها ، والرجوع عنها ، واعتقاد ضد ما كان يعتقد منها .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية