الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 157 ] ما جاء في ذم التقليد من الآيات والأحاديث وأقوال العلماء

وأما أقوال أهل المعرفة بالحق في ذم التقليد، فهي أكثر من أن تحصر، فنذكر منها هاهنا قليلا كما قيل: "ما لا يدرك كله لا يترك كله".

قال صالح بن محمد الفلاني في "إيقاظ همم أولي الأبصار للاقتداء بسيد المهاجرين والأنصار" في باب فساد التقليد ونفيه، والفرق بين التقليد والاتباع، ما عبارته:

قد ذم الله -تبارك وتعالى- التقليد في غير موضع من كتابه، فقال : اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله .

أخرج البيهقي في "المدخل" وابن عبد البر في كتاب العلم، بأسانيدهما إلى حذيفة بن اليمان: أنه قيل في الآية: أكانوا يعبدونهم؟ فقال: لا، ولكن كانوا يحلون لهم الحرام فيحلونه، ويحرمون عليهم الحلال فيحرمونه، فصاروا بذلك أربابا.

قال البيهقي: وقد روي هذا عن عدي بن حاتم مرفوعا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فساقه بسنده، وفيه قصة الصليب في عنقه، وفيه: فقلت: يا رسول الله! إنا لسنا نعبدهم.

فقال: "أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتستحلونه؟" قلت: نعم، قال: "فتلك عبادتهم".


هذا لفظ حديث إسحاق بن محمد السوسي.

وفي رواية الحافظ: فقال: "أليس كانوا يحلون لكم الحرام فتحلونه، ويحرمون عليكم الحلال فتحرمونه؟ قلت: بلى، قال: "فتلك عبادتهم".

وروى ابن عبد البر عن أبي البختري في الآية، قال: أما إنهم لو أمروهم أن يعبدوهم من دون الله، ما أطاعوهم، ولكن أمروا، فجعلوا حلال الله حراما، وحرامه حلالا، فأطاعوهم، فكانت تلك الربوبية.

[ ص: 158 ] وقال تعالى: ولا تقف ما ليس لك به علم [الإسراء: 34] وفي مثل هؤلاء وأمثالهم قال -عز وجل-: إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون [الأنفال: 22] وقال عائبا لأهل الكفر، وذاما لهم: ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون ، وقال: إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا ، ومثل هذا في القرآن كثير، من ذم تقليد الآباء والرؤساء والسادة والكبراء.

وقد احتج العلماء بهذه الآيات في إبطال التقليد، ولم يمنعهم كفر أولئك من الاحتجاج بها; لأن التشبيه لم يقع من جهة كفر أحدهما وإيمان الآخر، إنما وقع بين التقليدين بلا حجة للمقلد، كما لو قلد رجلا فكفر، وقلد آخر فأذنب، وقلد آخر في مسألة ونهاه، فأخطأ وجهها، وكان كل واحد ملوما على التقليد بغير حجة; لأن كل ذلك تقليد يشبه بعضه بعضا، وإن اختلفت الآثام فيه.

وقال تعالى: وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون [التوبة: 116] وفيه دليل على بطلان التقليد.

فإذا بطل، وجب التسليم للأصول، وهي الكتاب والسنة، أو ما كان في معناهما بدليل جامع بين ذلك. انتهى كلام ابن عبد البر.

وقال البيهقي بسنده عن ابن عباس مرفوعا: "مهما أوتيتم من كتاب الله، فالعمل به لا عذر لأحد في تركه، فإن لم يكن في كتاب الله، فسنة مني ماضية، فإن لم يكن سنة مني، فما قال أصحابي، إن أصحابي بمنزلة النجوم، فأيما أخذتم به اهتديتم، واختلاف أصحابي لكم رحمة".

قال البيهقي: هذا حديث متنه مشهور، وأسانيده ضعيفة، لم يثبت في هذا إسناد. انتهى.

قال ابن مسعود: ألا لا يقلدن أحدكم دينه رجلا، إن آمن آمن، وإن كفر كفر، فإنه لا أسوة في الشر.

وهذا كله نفي للتقليد وإبطال له.

قال ابن المعتز: لا فرق بين بهيمة تنقاد وإنسان يقلد.

[ ص: 159 ] قال عبد الله بن الإمام أحمد: قلت لأبي: الرجل تنزل به النازلة، وليس يجد إلا قوما من أصحاب الحديث والرواية، ولا علم لهم بالفقه، وقوما من أصحاب الرأي، لا علم لهم بالحديث؟.

قال: يسأل أصحاب الحديث، ولا يسأل أصحاب الرأي; فإن الحديث الضعيف خير من الرأي القوي.

والآثار عن الصحابة، والأقوال من السلف في هذا كثيرة جدا.

ومن تأمل في مقالات الأئمة الأربعة في الحث على ألا يستفتى إلا العالم بالكتاب والسنة، عرف صدق ما ذكرنا.

التالي السابق


الخدمات العلمية