الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                            صفحة جزء
                                                            باب صلاة الجماعة والمشي إليها عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة وللبخاري من حديث أبي سعد بخمس وعشرين درجة ، زاد أبو داود فإذا صلاها في فلاة فأتم ركوعها وسجودها بلغت خمسين صلاة ، ورواها ابن حبان والحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين ، ولهما من حديث أبي هريرة بخمسة وعشرين جزءا ، وفي رواية لهما خمسا وعشرين درجة ، ولهما : صلاة الرجل في جماعة تضعف على صلاته في بيته وفي سوقه .

                                                            قال البخاري خمسا وعشرين ضعفا ، وقال مسلم بضعا وعشرين درجة ، وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء ، ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة لم يخط خطوة إلا رفع له بها درجة وحط عنه بها خطيئة ، الحديث وفي رواية للبخاري أو حط .

                                                            قال الترمذي : وعامة من روى عن النبي صلى الله عليه وسلم إنما قالوا خمسة وعشرين إلا ابن عمر فإنه قال بسبع وعشرين (قلت) بل في مسند أحمد من حديث أبي هريرة بسبع وعشرين . .

                                                            [ ص: 296 ]

                                                            التالي السابق


                                                            [ ص: 296 ] (باب صلاة الجماعة والمشي إليها) (الحديث الأول) عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة .

                                                            فيه فوائد :

                                                            (الأولى) فيه تأكد صلاة الجماعة وفضلها والحض عليها .

                                                            (الثانية) فيه أن أقل الجماعة اثنان ؛ لأنه جعل هذا الفضل لغير الفذ وما زاد على الفذ فهو جماعة وقد يقال : إنما رتب هذا الفضل لصلاة الجماعة وليس فيه تعرض لنفي درجة متوسطة بين الفذ والجماعة كصلاة الاثنين مثلا ولكن قد ورد في غير حديث التصريح بكون الاثنين جماعة فروى ابن ماجه من حديث أبي موسى الأشعري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنان فما فوقهما جماعة ورواه البيهقي أيضا من حديث أنس وفيهما ضعف لكن استدل لذلك بما رواه البخاري ومسلم من حديث مالك بن الحويرث إذا حضرت الصلاة فأذنا وأقيما ، ثم ليؤمكما أكبركما بوب عليه البخاري باب اثنان فما فوقهما جماعة قال النووي في الخلاصة ويستدل فيه أيضا بالإجماع قلت وفي الإجماع نظر وقد حكى ابن الرفعة في الكفاية خلافا في أن أقل الجماعة ثلاثة وهو ضعيف وحكاه ابن بطال في شرح البخاري عن الحسن البصري .



                                                            (الثالثة) فيه رد على داود الظاهري وأبي ثور وابن المنذر وابن خزيمة فيما [ ص: 297 ] ذهبوا إليه من أن الجماعة فرض عين وحكي أيضا عن أحمد وعزاه بعضهم قولا للشافعي فيما حكاه الرافعي إلا أن هؤلاء القائلين بوجوبه أكثرهم يجعله فرضا وليس بشرط في الصحة وبعضهم يجعله شرط في الصحة وهو داود ورواية عن أحمد وأظهر الروايتين عنه : أنها واجبة وليست بشرط ووجه الدلالة منه : أن صيغة أفعل تقتضي المشاركة في الفضيلة لصلاة الفذ وإذا كانت الجماعة فرض عين لم تصح الصلاة بدونها فلا يكون فيها فضيلة وأيضا فلا يقال : الإتيان بالواجب أفضل من تركه قال صاحب المفهم لا يقال : إن لفظة أفعل قد ترد لإثبات صفة في إحدى الجهتين ونفيها عن الأخرى ، وأفضل المضافة إلى صلاة الفذ كذلك ؛ لأنا نقول إنما يصح ذلك في أفعل مطلقا غير مقرون بمن كقوله تعالى فتبارك الله أحسن الخالقين انتهى .

                                                            وفي بعض ألفاظه عند مسلم تزيد عن صلاته وحده وفيه التصريح بصحة الصلاة وحده والله أعلم .



                                                            (الرابعة) للقائل باشتراط الجماعة أن يجيب عما استدل به من الاشتراك في الفضيلة بين الجماعة والفذ بأن يحمل ذلك على صلاة الفذ الصحيحة عندهم كمن له عذر من مرض ويجوز .

                                                            والجواب عنه أنا لا نسلم أن المعذور لا يكتب له التضعيف المجعول للجماعة بدليل ما رواه البخاري من حديث إذا مرض العبد أو سافر كتب الله له ما كان يعمله صحيحا مقيما وروى أبو داود والنسائي من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من توضأ [ ص: 298 ] فأحسن وضوءه ، ثم راح فوجد الناس قد صلوا أعطاه الله عز وجل أجر من صلاها وحضرها لا ينقص ذلك من أجرهم شيئا .

                                                            وأما قول النووي في شرح المهذب إن أصحاب الأعذار لا يحصل لهم فضيلة الجماعة بلا شك فهو مردود استدلالا بما ذكرناه ومردود نقلا بما ذكره القفال والروياني والغزالي من حصول ثواب الجماعة لهم والله أعلم .



                                                            (الخامسة) قد اختلف الأحاديث في العدد الذي تفضل به صلاة الجماعة على الانفراد ففي حديث الباب بسبع وعشرين وفي الروايات المذكورة في بقية الباب بخمس وعشرين ولابن ماجه من حديث أبي بن كعب أربعا وعشرين أو خمسا وعشرين درجة فما الجمع بين هذا الاختلاف ؟ وقد أجيب عن ذلك بأجوبة :

                                                            (أحدها ما قيل) إن الدرجة أصغر من الجزء فكأن الخمسة وعشرين جزءا إذا جزئت درجات كانت سبعا وعشرين حكاه صاحب المفهم وغيره وهذا الجواب يرده ما ذكر في بقية الباب من الرواية التي في الصحيحين من حديث أبي هريرة خمسا وعشرين درجة ، وكذا ما ذكر من عند البخاري من حديث أبي سعيد بخمس وعشرين درجة .

                                                            (والثاني) أن الله كتب فيها أنها أفضل بخمسة وعشرين جزءا ، ثم تفضل بزيادة درجتين .

                                                            (والثالث) أن ذلك بحسب أحوال المصلين فيحصل التضعيف لبعضهم بخمسة وعشرين ولبعضهم بسبعة وعشرين بحسب محافظتهم على آداب الجماعة .

                                                            (والرابع) أن ذلك يرجع إلى أعيان الصلوات فيفضل بعضها بخمس وبعضها بسبع حكاها كلها صاحب المفهم فذكر حديث أبي فهو شك من بعض الرواة وقد حفظ غيره خمسا وعشرين والله أعلم .

                                                            (السادسة) ذكر صاحب المفهم أن صلاة الجماعة بثمانية وعشرين صلاة أخذ ذلك من قوله صلاة الرجل في جماعة تزيد على صلاته وحده سبعا وعشرين درجة فقال وقد أفادت هذه الزيادة أن المصلي في جماعة يكون له ثمان وعشرون باعتبار الأصل الذي زيد عليه سبع وعشرون ويكون للمصلي وحده جزء واحد .

                                                            (السابعة) هل هذا الفضل المذكور للجماعة مقيد بكونها في المسجد أو التضعيف حاصل بمطلق الجماعة في أي موضع كانت حكى صاحب المفهم فيه خلافا قال والظاهر الإطلاق ؛ لأن الجماعة هو الوصف الذي علق عليه الحكم .

                                                            (قلت) ولكن ظاهر الرواية المذكورة من الصحيحين في آخر الباب يقتضي التقييد بالمسجد لما فيه من [ ص: 299 ] الإشارة إلى العلة فإنه لما ذكر أنها تفضل بخمسة وعشرين ضعفا أو ببضع وعشرين درجة قال وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء ، ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة فذكر الحديث فعلل ما ذكر من الثواب أولا بما ذكره ثانيا وفيه الخروج إلى المسجد ، وكذا قوله في أول الحديث تزيد على صلاته في بيته وفي سوقه وربما كانت صلاته في بيته أو في سوقه جماعة فرتب عليها الفضل بالتضعيف المذكور والله أعلم .

                                                            (الثامنة) تكلف بعض شارحي البخاري وهو ابن بطال بأن عين الدرجات السبع وعشرين من أحاديث ذكرها هي نية الصلاة في جماعة والخطى إلى المسجد وصلاة الملائكة عليه وكونه في صلاة ما انتظر الصلاة وإدراك النداء والصف الأول والتهجير واجتماع ملائكة الليل وملائكة النهار في الصبح والعصر وإجابة داعي الله والسكينة في إتيان الصلاة والذكر في طريقه إليها والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والدعاء عند دخول المسجد وعند الخروج منه والسلام عند دخول المسجد وتحية المسجد وترك الخوض في الدنيا في المسجد وإجابة الدعاء بحضرة النداء واعتدال الصفوف والتراص فيها واستماع قراءة الإمام وقول ربنا ولك الحمد بعد قول الإمام سمع الله لمن حمده ، وموافقة الملائكة في التأمين وشهادة الملائكة لمن حضر الجماعة وتحرى موافقة الإمام وفضل تسليمه على الإمام وعلى من بجنبه وفضل دعاء الجماعة ، والاعتصام بالجماعة من سهو الشيطان ، قال فتمت سبعا وعشرين درجة .

                                                            (التاسعة) قوله في حديث أبي سعيد عند أبي داود فإذا صلاها في فلاة هل المراد منه صلاها في الفلاة في جماعة أو منفردا أو أعم من ذلك حكى أبو داود في سننه بعد تخريجه ما يقتضي أن المراد مع الانفراد فقال قال عبد الواحد بن زياد في هذا الحديث : صلاة الرجل في الفلاة تضاعف على صلاته في الجماعة وساق الحديث .

                                                            (قلت) وليس في الحديث ما يقتضي كونه منفردا أو في جماعة بل يحتمل كلا من الأمرين فإن كان المراد به الجماعة في الفلاة فإنما ضعفت على الجماعة في المسجد ؛ لأن المسافر لا يتأكد في حقه الجماعة كما تتأكد على المقيم حتى ادعى النووي أنه لا يجري في المسافر الخلاف الذي في كونها فرض كفاية أو فرض عين لشغله .

                                                            [ ص: 300 ] بالسفر فإذا أقامها جماعة في السفر ومع وجود مشقة السفر ضوعفت له على الإقامة فكانت بخمسين وإن كان المراد به فعلها منفردا فلما ورد أن من أذن في فلاة وأقام وصلى صلى معه صف من الملائكة لا يرى طرفاهم فضوعفت صلاته لأفضلية الملائكة الذين صلوا معه والله أعلم .

                                                            (العاشرة) ما ذكرناه عن الحاكم من جعل هذه الزيادة على شرط الشيخين وقع للحاكم فيه وهم وهو أنه قال بعد ذلك فقد اتفقا على الحجة بروايات هلال بن أبي هلال ويقال ابن أبي ميمونة ويقال ابن علي ويقال ابن أسامة كله واحد انتهى كلامه وهو وهم فإن هلال بن ميمون المذكور في سند هذا الحديث ليس هو هلال الذي احتج به الشيخان ذاك أقدم من هذا وهو مدني قرشي عامري مولاهم من التابعين وراوي هذا الحديث من جهينة ويقال من هذيل فلسطيني رملي من أتباع التابعين وقد فرق بينهما البخاري في التاريخ وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل وابن حبان في الثقات فذكر ذاك في طبقة التابعين وهذا في طبقة أتباع التابعين وذاك متفق على عدالته وهذا مختلف فيه تكلم فيه أبو حاتم ووثقه الجمهور والله أعلم .

                                                            (الحادية عشرة) ذكرنا في الأصل عن الترمذي أن عامة من رواه قالوا خمسة وعشرين إلا ابن عمر وذكرنا من حديث أحمد سبع وعشرين من غير طريق ابن عمر وهو عند أحمد هكذا ثنا أبو النضر ثنا شريك عن الأشعث بن سليم عن أبي الأحوص عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فضل صلاة الجماعة على الواحدة سبعا وعشرين درجة وشريك هذا هو النخعي تكلم فيه من قبل حفظه وعلق عنه البخاري وروى له مسلم في المتابعات والله أعلم .



                                                            (الثانية عشرة) استدل به بعض المالكية للمشهور عن مالك أنه لا فضل لجماعة على جماعة ؛ لأنه جعل الجماعات كلها بسبع وعشرين وخمس وعشرين ولم يفرق بين جماعة وجماعة وذهب الشافعي والجمهور إلى أن الجماعات تتفاوت لما روى أبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث أبي بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل وما كثر فهو أحب إلى الله تعالى .

                                                            وليس في حديث [ ص: 301 ] الباب حجة لمن تعلق به في تساوي الجماعات ؛ لأنا نقول : أقل ما تحصل به الجماعة محصل للتضعيف ولا مانع من تضعيف آخر بسبب آخر من كثرة الجماعة أو شرف المسجد أو بعد طريق المسجد أو غير ذلك والله تعالى أعلم .

                                                            وقوله في حديث أبي هريرة لم يخط خطوة إلا رفع الله بها درجة المشهور في الخطوة فتح الخاء وقيده صاحب المفهم بضمها وقال إنه الرواية كذا قال وهي واحدة الخطا وهي ما بين القدمين قال فأما الخطوة بفتح الخاء فهي للمصدر والضم للاسم والفتح للمصدر وقال صاحب النهاية الخطوة بالضم بعد ما بين القدمين في المشي وبالفتح المرة الواحدة ومما يسأل عنه هل المراد بهذه الخطا ما كان في الذهاب إلى المسجد فقط أو في الذهاب والرجوع يحتمل كلا من الأمرين .

                                                            وظاهر الحديث تعلقه بالذهاب فقط لقوله في بقية الحديث حتى يدخل المسجد وقد ورد التصريح بالاحتمال الثاني فيما رواه أحمد من حديث عبد الله بن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من راح إلى مسجد الجماعة فخطوة تمحو سيئة وخطوة تكتب له حسنة ذاهبا وراجعا وفي إسناده ابن لهيعة وقد ورد في حديث آخر عند أحمد من حديث عقبة بن عامر أنه يكتب له بكل خطوة يخطوها إلى المسجد عشر حسنات والجمع بينه وبين ما قبله أن المراد بالحسنة في ذلك الحديث حسنة مضاعفة ولا اختلاف حينئذ بينهما والله أعلم .




                                                            الخدمات العلمية