الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        [ منزلة فروض الكفايات ]

        509 - ثم الذي أراه أن القيام بما هو من فروض الكفايات أحرى بإحراز الدرجات ، وأعلى [ في ] فنون القربات من فرائض [ ص: 359 ] الأعيان فإن ما تعين على المتعبد المكلف ، لو تركه ، ولم يقابل أمر الشارع فيه بالارتسام ، اختص المأثم به ، ولو أقامه ، فهو المثاب .

        ولو فرض تعطيل فرض من فروض الكفايات لعم المأثم على الكافة على اختلاف الرتب والدرجات ، فالقائم به كاف نفسه وكافة المخاطبين الحرج والعقاب ، وآمل أفضل الثواب ، ولا يهون قدر من يحل محل المسلمين أجمعين في القيام لمهم من مهمات الدين .

        510 - ثم ما يقضى عليه بأنه من فروض الكفايات ، قد يتعين على بعض الناس في بعض الأوقات ، فإن من مات رفيقه في طريقه ، ولم يحضر موته غيره ، تعين عليه القيام بغسله ودفنه وتكفينه .

        ومن عثر على بعض المضطرين وانتهى إلى ذي مخمصة من المسلمين ، واستمكن من سد جوعته ، وكفاية حاجته ولو [ ص: 360 ] تعداه ، ووكله إلى من عداه ، لأوشك أن يهلك في ضيعته ، فيتعين على العاثر عليه القيام بكفايته .

        511 - وأقرب مثال إلى ما نحاول الخوض فيه - الجهاد ، فهو في وضع الشرع مع استقرار الكفار في الديار من فروض الكفايات ، ولو فرض من [ هو من ] أهل القتال في الصف ، وعدد الكفار غير زائد على الضعف ، ثم آثر بعد الوقوف للمناجزة المحاجزة والانصراف من غير تحرف لقتال ، أو تحيز إلى فئة ، فقد باء بغضب من الله ، ومأواه جهنم وبئس المصير ، فيصير ما كان فرضا على الكفاية متعينا بالملابسة .

        وقد قال العلماء ليس للرجل أن يخرج إلى صوب الجهاد على الاستبداد ، دون إذن الوالدين ، ولو خرج ( 191 ) دونهما كان عاقا ، مخالفا لأمر الله مشاقا ، ولو خرج من غير استئذان وانغمس في القتال ، لما التقى الصفان فليس له أن يرجع الآن ، وإن لم يتقدم منه استئذان ، وكان خروجه على وجه العقوق والعصيان . .

        [ ص: 361 ] وكذلك العبد القن ، ليس له أن يخرج إلى الجهاد دون إذن مولاه ، فلو استقل بنفسه وخرج ، كان شاردا آبقا متمردا على مالك رقه ، تاركا ما أوجب الله من رعاية حقه .

        وهو في حركاته وسكناته ، وتردداته في جميع تاراته ، وحالاته معرض لسخط الله ، وسوء عقابه ، ثم لو تمادى على إباقه وشراده ، ووقف في الصف على استبداده ، تعينت عليه المصابرة ، حتى تضع الحرب أوزارها .

        فهذه جمل قدمنا تذكارها ، وأنا أوضح الآن مواقعها وآثارها ، فأقول : 512 - قد تحقق أن صدر الورى ، وكهف الدين والدنيا ، احتمل أعباء الملة وأثقالها ، وتقلد أشغالها ، وجردت إليه الخليقة آمالها ، جررت إليه الأماني أذيالها ، وربطت ملوك الأرض بعالي رأيه [ سلمها ] وقتالها ، ووفاقها وجدالها ، وواصلت البرية في اللياذ به غدوها وآصالها .

        ولو آثر الإيداع أياما معدودة لبدلت الاستقامة أحوالها وزلزلت الأرض زلزالها ، وأبدت غوائل الدهر [ ص: 362 ] أهوالها ، وبلغ الأمر مبلغا يعسر فيه التدارك ، ولا يرجى معه التماسك .

        513 - فإذا كان يجب على العبد الآبق إذا لابس القتال ووقف في صف الأبطال أن يصابر ، ويستقر ويثابر ، لأنه لو انصرف لأفضى انصرافه ، وانعطافه إلى إهلاك الجند ، وانحلال العقد .

        514 - ثم إذا كثر الجمع في صف الإسلام ، فقد يقل أثر واحد ينسل وينفك ، وربما ( 192 ) لا يستبين له وقع ، ولا يظهر لوقوفه في نظر العقل نفع ولا دفع ، إذا كانت بنود الإسلام نحو مائة ألف مثلا ، أو يزيدون ، ولكن حسم الشرع سبيل الانصراف والانكفاف ، فإن تسويغ الانفلال للواحد يؤدي إلى تسويغه لغيره ، وهذا يتداعى إلى خروج الأمر عن الضبط ، إذ النفوس تتشوف إلى الفرار من مواطن الردى ، وتتنكب أسباب التوى .

        515 - فإذا تقرر ذلك من حكم الشريعة فمن وقف في الاستقلال بمهمات المسلمين والذب عن حوزة الدين ، موقف من هو في الزمان [ ص: 363 ] صدر العالمين ، ولو فرض - والعياذ بالله - تقاعده عن القيام بأمر الإسلام ، لانقطع قطعا سلك النظام ، فلأن تجب عليه المصابرة ، مع العلم بأنه لا يسد أحد في عالم الله مسده بعده ، وقد أضحى للدين وزرا ، وعدة وانتدب للسنة ، والإسلام جنة وحده - أولى . .

        516 - فخرج من ترديد المقال في هذا المجال ، والاستشهاد بالأمثال قول مبتوت ، لا مراء فيه ، ولا جدال في أنه يجب على صدر الدين قطعا من غير احتمال - الاستثبات على ما يلابسه من الأحوال .

        وأنا أتحدى علماء الدهر فيما أوضحت فيه مسلك الاستدلال ، فمن أبدى مخالفة فدونه والنزال في مواقف الرجال .

        وهو قول أضمن الخروج عن عهدته في اليوم الجم الأهوال ، إذا حقت المحاقة في السؤال ، من الملك المتعال ، ذي الجلال [ ص: 364 ] ثم قربات العالمين ، وتطوعات المتقربين ، لا توازي وقفة من وقفات من تعين عليه بذل المجهود في الذب عن الدين .

        التالي السابق


        الخدمات العلمية