الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
فيقال: أما قوله في " الوجه الأول " مدارها على أن كل موجودين في الشاهد فلا بد وأن يكون أحدهما محايثا للآخر أو مباينا عنه بالجهة. قوله: وهذه المقدمة ممنوعة فنقول: منع هذه من أعظم السفسطة، فإن الشاهد ما نشهده بحواسنا الظاهرة أو الظاهرة والباطنة، وليس فيما نشهده شيء إلا محايث لغيره، وهي الصفات التي هي الأعراض، أو مجانب له بالجهة، وهي الأعيان القائمة بنفسها وهي الجواهر، فمن منع أن يكون المشهود لا يخلو عن أحد هذين الوصفين فقد منع أن تنقسم المشهودات إلى الجواهر والأعراض، ومعلوم أن هذا خلاف اتفاق الخلائق من الأولين والآخرين وخلاف ما يعلم بالضرورة والحس، فإن الشيء المشهود إما قائم بنفسه وهو مباين لغيره، وإما قائم بغيره وهو محايث له.

[ ص: 345 ] وأما الوجوه التي ذكرها فعنها أجوبة:

أحدها: أن الاستدلال على ذلك غير مقبول، أنه قدح في أظهر الحسيات الضروريات.

الثاني: أن هذا المؤسس وسائر طوائف أهل الحق متفقون على بطلانها، وهو من أعظم الناس إبطالا لما ذكره الفلاسفة في وجود جواهر غير محايثة لغيرها، ولما ذكره المعتزلة من وجود أعراض غير محايثة لغيرها، بل ما زال الناس يذكرون أن هذا من أعظم المحالات المتناقضة التي أثبتتها المعتزلة، حيث أثبتوا إرادات وكراهات لا في محل، وأن قولهم هذا يوجب عليهم وجود بقية الأعراض لا في محل، وينقض عامة أصولهم.

الوجه الثالث: أن يقال: ما ذكروه من الحجة على أن الموجودين لا بد وأن يكونا متباينين أو متحايثين هو حجة على [ ص: 346 ] هؤلاء وغيرهم، فيكون التزام بطلان هذه الأقوال طرد الدليل، والمستدل إذا استدل بدليل يبطل مذهب منازعيه في الصورة التي تنازعا فيها وفي غيره مما لم يذكره، لم يكن للمنازع أن ينقض دليله بمجرد مذهبه في صورة النزاع، ولا يجب على المستدل أن يخص كل صورة بدليل خاص إذا كان العام يتناول الجميع.

وبهذا يظهر خطؤه في قوله: " ما لم تبطلوا هذا المذهب بالدليل لا يصح القول بأن كل موجودين في الشاهد: فإما أن يكون أحدهما محايثا للآخر أو مباينا عنه"، وكذلك قوله ما لم تبطلوا قول المعتزلة بثبوت إرادات وكراهات وفناء لا في محل" فإن الدليل الذي ذكروه على أن كل موجودين لا بد أن يكون أحدهما مباينا للآخر أو يكون بحيث هو، سواء كان هو الضرورة أو الحجة القياسية حجة على هؤلاء وعلى غيرهم، فلا يكون مجرد دعوى هؤلاء أو دعوى غيرهم معارضة لما ذكر من الدليل لكن، إن أقاموا حجة على جوهر غير مباين لغيره أو ثبوت عرض غير محايث لغيره كان ذلك الدليل معارضا، لكن هذا لم يذكر، والجواب عنه إذا ذكر هو جواب المؤسس وسائر بني آدم، وذلك يظهر بالوجه الرابع وهو أن قوله: إن جمهور [ ص: 347 ] الفلاسفة يثبتون هذه الأشياء ويصفونها بما ذكر. ليس كذلك، بل هذا تثبته طائفة من الفلاسفة وهم المشاؤون أتباع أرسطو ومن وافقهم، وهؤلاء هم الذين سلك سبيلهم الفارابي وابن سينا. وهذا المؤسس من كتب ابن سينا يأخذ مذاهب الفلاسفة [ ص: 348 ] وكثيرا ما يقول اتفق الفلاسفة ولا يكون عنده إلا ما ذكر ابن سينا، وليس ما يذكره ابن سينا قول جميع الفلاسفة بل الفلاسفة أعظم تفرقا، وأكثر طوائف من أن يحصر قولهم كلام ابن سينا أو غيره، وقد حكى من صنف في المقالات من المسلمين مثل أبي الحسن الأشعري والنوبختي والباقلاني وغيرهم من مقالات الفلاسفة أضعاف أضعاف ما يذكره ابن سينا وهذا المؤسس.

وكذلك حكايته عن جمهور المعتزلة: إثبات إرادات وكراهات وفناء لا في محل. وهذا إنما هو قول بعض البصريين وهم أبو علي وأبو هاشم ونحوهما، وليس هؤلاء جمهور المعتزلة بل لهم في الإرادة والكراهة وفي الفناء أقوال [ ص: 349 ] كثيرة معروفة، هذا واحد منها.

أما الوجه الثالث الذي ذكره على وجود موجودات في الأعيان وهي الإضافات وأنه يمتنع أن تكون محايثة للعالم أو مباينة عنه بالجهة، فهذا يعلم فساده بالضرورة والحس واتفاق العقلاء، فلا يستحق الجواب، فإن بعض الناس قد تنازع في الأمور التي لم يشهدها كالعقول والإرادات، أما هذه الأعيان المشهودة فإنه لم يقل عاقل أنه يوجد فيها أمور لا مباينة للغير ولا محايثة له، فإذا كان على هذا الوجه لم يستحق الجواب لكنا نبين وجه جهله لتتم الفائدة، فنقول: " الأبوة" هي كون الإنسان تولد منه نظيره، والبنوة كونه يولد من نظيره أو ما يشبه هذا، فإن الولادة داخلة في مسمى الأبوة والبنوة، وكون الشيء ولده غيره أو ولد غيره وصف محسوس قائم بالوالد والولد، وفي الحقيقة هو صفة ثبوتية فيها إضافة. وأما العمومة والخؤولة ففيها ولادتان: ولادة الأب للشخص، وولادة جده لعمه، وبنوة العم فيها ولادة ثالثة، وهي ولادة العم لابنه. فتفرع النسب يكون متعدد الولادة، وقد يكون إحدى الولادات [ ص: 350 ] موجودا لكن يتوقف الوصف على الأخرى، كما يتوقف الأمر في العمومة والخؤولة على نحو ذلك.

ومن هنا يظن الظان أنها إضافة محضة، والتحقيق أن أحد الوصفين وجد قبل الآخر. ومن المعلوم أن كونه ولد وانفصل عن أبيه وأمه ليس هو سببا يتبعض حتى يقال: ثلث ولادة وربع ولادة. أعني إذا خرج جميعه، وإذا لم تكن منقسمة لم تكن الأبوة والبنوة منقسمة حتى يقال: ثلث الأبوة أو ثلث البنوة كما لا يقال: نصف الحيوانية والإنسانية والناطقية ونحو ذلك.

فظهر أن الأبوة التي هي وجودية محايثة لذات الرب كغيرها، وكيف لا يكون ذلك والأبوة من أعظم الصفات القائمة بالأب المغيرة له تغيرا مشهودا بالحس، لما يوجد فيه من محبة الولد والحنو عليه والعطف عليه وأمثال ذلك مما لا يوجبه سائر الصفات، فهي بأن تكون قائمة به أولى من غيرها،.

التالي السابق


الخدمات العلمية