الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 175 ] الإمام أحمد يذم التقليد وينهى عنه

المقصد الرابع: فيما قاله إمام أهل السنة على الإطلاق أحمد بن حنبل -رضي الله عنه- وأصحابه.

قال أبو داود: قلت لأحمد: الأوزاعي أتبع من مالك؟ فقال لي: لا تقلد دينك أحدا من هؤلاء، ما جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، فخذ به، ثم التابعين، وبعد، فالرجل فيه مخير.

وقال أيضا لأبي داود: لا تقلدني، ولا تقلد مالكا، ولا الشافعي، ولا الأوزاعي، ولا الثوري، وخذ من حيث أخذوا.

وقال: من قلة فقه الرجل أن يقلد دينه الرجال.

قال ابن القيم: ولأجل هذا لم يؤلف أحمد كتابا في الفقه، وإنما دون مذهبه أصحابه من أقواله وأفعاله. انتهى.

قلت: وكتابه "المسند" يغني عن الجميع.

قال ابن القيم: هذا الشافعي نهى أصحابه عن تقليده، ويوصيهم بترك قوله إذا جاء الحديث بخلافه، وهذا الإمام أحمد منكر على من كتب فتاواه، ودونها، ويقول: لا تقلدني، ولا فلانا، وفلانا، وخذ من حيث أخذوا.

قال: وكان أحمد شديد الكراهة لتصنيف الكتب، وكان يحب تجريد الحديث، ويكره أن يكتب كلامه، ويشتد عليه جدا. انتهى.

وقال: قد كذب أحمد من ادعى الإجماع، ولم يمتنع من تقديمه على الحديث الثابت.

وكذلك نص الشافعي أيضا في "رسالته الجديدة" على أن ما لا يعلم فيه الخلاف لا يقال له: إجماع.

وقال أحمد: ما يدعي فيه الرجل الإجماع، فهو كذب على من ادعى عليه، لعل الناس اختلفوا، ما يدريه؟ ولم ينته إليه، فليقل: لا نعلم الناس اختلفوا، ولم يبلغني ذلك. هذا لفظه.

[ ص: 176 ] ونصوص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عنده، وسائر أئمة الحديث، أجل من أن يقدم عليها توهم إجماع، مضمونه عدم العلم بالمخالف.

ولو ساغ، لتعطلت النصوص، وساغ لكل من لم يعلم مخالفا في حكم مسألة أن يقدم جهله بالمخالف على النصوص.

فهذا هو الذي أنكره أحمد والشافعي من دعوى الإجماع، لا ما يظنه الناس أنه استبعد وجوده. انتهى ما في "إعلام الموقعين".

قال الفلاني: والحاصل: أن السلف كلهم على ذم الرأي والقياس المخالف للكتاب والسنة، وأنه لا يحل العمل به، لا فتيا، ولا قضاء.

وقد جمع ابن دقيق العيد المسائل التي خالف مذهب كل واحد من الأئمة الأربعة فيها الحديث الصحيح انفرادا واجتماعا، في مجلد ضخيم وذكر في أوله: أن نسبة هذه المسائل إلى الأئمة المجتهدين حرام، وأنه يجب على الفقهاء المقلدين لهم معرفتها; لئلا يعزوها إليهم، فيكذبوا عليهم.

هكذا نقله عنه تلميذه الإدفوي، نقلته من "تذكرة" الشيخ عيسى الثعالبي الجعفري الجزائري منشأ، المكي وفاة -رحمه الله- انتهى.

قلت: ويمكن جمع ذلك اليوم لمن له عبور على مؤلفات الإمام الرباني القاضي محمد بن علي الشوكاني في "الفقه الماني" لكن المحنة في مطالعتها وكتابتها على حدة.

وقد عم فقه السنة الصحيحة المحكمة الصريحة في هذا الزمان بعناية بعض خدام الحديث والقرآن بكل لسان، وتم الأمر الذي كان لا بد منه في هذا الشأن، ولم يبق عذر لعاذر في العمل به إلا التقليد المشؤوم، الذي زينه في قلوبه الشيطان، فتحيلوا لترك العمل به بأنواع من الاحتيال، وخاضوا على رغم أنف الإسلام في كل قيل وقال، إلا من رحمه الله.

وحيث إن عداوة التقليد بالاتباع واضحة، وفي إيثاره عليه ضياع الدين، رأينا [ ص: 177 ] أن نطول الكلام عليه في هذا الكتاب، ونقضي الوطر عنه، لعل واحدا من ألف يوفقه الله سبحانه لاختيار الحق، وترك الباطل، ونحن نشاركه لأجل ذلك في الأجر الآجل.

وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لأن يهدي الله بك رجلا خير لك من حمر النعم".

ومن العجب العجاب أن سفهاء هذا العصر، إذا رأوا أحدا يرد التقليد، ويرد على أهله، ظنوا أن مراده بذلك هو استخفاف بالإمام أبي حنيفة -رضي الله عنه- والرد على مقلديه خاصة.

ولم يدر هؤلاء المساكين أنه إذا تقرر أن التقليد حرام، ومؤد إلى الإشراك، وموقع لأهله في البدعة، بل في هوة الهلاك، فهو مذموم، سواء كان لأبي حنفية، أو لمالك، أو للشافعي، أو لأحمد، أو لغيرهم.

وأنه حيث ما وجد مذكور بالذم والشؤم والقبح، لم يرح قط رائحة المدح أو القبول أبدا.

فما له وللتخصيص بأحد من الأئمة المجتهدين الأربعة، بل عند القائل بتحريمه حكم تقليد جميعهم سواء.

والراد عليه لا يخطر بباله أبدا استخفاف واحد منهم، ولا يدور في خياله ما يدور في خيال هؤلاء الموجبين له.

وكيف يظن به ذلك، والأئمة المقلدون -بفتح اللام- موافقون له في هذا الكلام والمرام، أعني: النهي عن تقليد الرجال، والهداية إلى اتباع الكتاب والسنة على كل حال وفي كل حال، وهو موافقهم ومتبعهم ومقتديهم في هذه الحال والمقال؟

فما معنى الاستخفاف منه في حقهم المنيع، وشأنهم الرفيع؟!

[ ص: 178 ] بل إنما الحط منه على الذين يدعون تقليد الأئمة، ويخالفونهم في الطريقة والأمة عيانا وجهرا، ولا يستطيع أحد أن ينكر مخالفته هذه مع إمامه.

فإن تفوه بخلاف ذلك، فهذا الفرس، وهذا الميدان، واليوم يوم رهان.

ها نحن مستعدون لإثبات مخالفته في مسائل كثيرة، أصولا وفروعا بإمامه الذي يدعي تقليده بلسانه، ويضاده بجنانه.

وهذه كتب فقه الحنفية وغيرهم، قد اشتملت على مسائل وأحكام لم يبلغ اسمها إلى أذن الإمام، ولم يقل به ذلك الهمام، إنما افتريت عليه، وقد خاب من افترى بين الأنام.

ونسبتها إليه -رضي الله عنه- وإلى غيره من الأئمة، كذب بحت، وبهت صرف، لا يجترئ عليه إلا من لا خلاق له من الإيمان، أو لا نصيب له من الإنصاف، أو ليس له أدنى حياء من الرحمن.

وأما الأئمة، فهم مبرؤون عن ذلك يوم القيامة، ولو كانوا أحياء في هذا الزمان، ورأوا ما عزوه إليهم من هذه التفريعات، والمسائل، والأقيسة، والحمائل، لصاحوا بأعلى صوت على رؤوس الأشهاد: إن ذلك افتراء عليهم، وهم لم يقولوا به يوما من الدهر، لا في الأغوار، ولا في الأنجاد، وقالوا: سبحانك هذا بهتان عظيم.

ولا ريب أن شأنهم الرفيع، وفضلهم الكبير، لا يقتضي إلا الإنكار عن تلك الآراء والأفكار.

ولو أنهم رضوا بذلك، لم يكونوا أبا حنيفة، ولا مالكا، ولا شافعيا، ولا أحمد "ع جو كفراز كعبه برخيزد كجا ماند مسلماني".

والسبب أن هؤلاء المقلدة قاسوا الأئمة على أنفسهم في الجمود على [ ص: 179 ] التعصب الباطل، والحمية الجاهلية، قياس الغائب على الشاهد، ففاهوا فيهم بما فاهوا، وبالسفهاء ضاهوا.

ولم يعلموا من قلة العقل، وكثرة الجهل أن الاستخفاف بهم إنما يلزم من قول هؤلاء فيهم، لا من قول من يرد التقليد، ويثبت الاتباع.

بل هؤلاء المتبعون الكتاب والسنة هم المقلدون لهم في الحقيقة، والماشون على آثارهم في الطريقة; لقبول أولئك قولهم في العمل بالسنة، وترك تقليد الأئمة.

وأما تلك المقلدة السفهاء الأحلام، فغير مقلدين لهم; لكون هؤلاء مخالفين لهم فيما جاء عنهم من الأمر بأسوة الكتاب والسنة، وأن ما صح منهما، فهو مذهبهم، وما خالفهم، فهم راجعون عنه في الحياة وبعد الممات، كما تقدمت الإشارة إلى ذلك، فانعكست القضايا، وطابت للضالة المضلة الرزايا.

[ ص: 180 ] وهذا مثال واحد لخفة عقول المقلدة، وجهلهم بحقائق الأمور، وبعدهم عن إدراك دقائق المأثور.

ولو ذهبنا نذكر كل جهالة من جهالاتهم، أو باطلة من باطلاتهم، أو نذكر أدلتهم على وجوب التقليد عموما، وعلى تقليد الشخص المعين خصوصا، ثم طولنا الذيل بتحرير رد كل مقالة لهم، والجواب على كل هذيان منهم، لجاء مؤلف مستقل حافل.

ولكن أي فائدة في بيان اللهو واللعب، وتضييع الوقت العزيز في الاشتغال برد خرافات كل مذهب؟

بل الأولى أن تماط البدع والضلالات بعدم ذكرها في كتب الهدايات.

وقد رأينا جماعة -من المعاصرين وغيرهم- ألفوا مؤلفات موجزة ومبسوطة في هذا الشأن، أتوا فيها بكل هذيان لهم وخذلان.

وأجاب الآخرون عليها بأجوبة واضحة البرهان، كاشفة البيان، وأفحموا المقلدة، وألقموهم بالأحجار، ولكنهم -لكونهم غير أهل الحياء والعفة، وكونهم أصحاب الرأي والسفه- لم يقبلوا ما بين لهم من أدلة الكتاب والسنة، ومن نقول أئمة الأمة، وأصروا على ما استكبروا، وجمدوا على ما كانوا زيادة على الحال الأول.

ثم أجابوا أهل الحق بتدليس المقال، وتلبيس الأحوال، وزعموا أن الجواب تم وعم، ولم يعلموا أنه -في الحقيقة- عليهم مأتم; لأنهم فروا مما أفحموا فيه إلى ما لم يكن عليهم جوابه عند السفيه، فضلا عن الفقيه، وإذا لم تستح فاصنع ما شئت.

ومن صفات هؤلاء المبتدعة بداية: الرد على المتبعة، إنفاقا لبدعهم، ونفاقا مع أهل الحق، ثم الكيادة في جواب الجواب، ثم النطق بالشتم والسباب.

ثم الاستعانة بأهل نحلتهم المبطلين، والاستمداد منهم في رجعان أهل [ ص: 181 ] الدين، ثم التفاخر بمنزلتهم من الاجتهاد والتجديد في الشرع المبين، ثم الإيراد على سلف هذه الأمة وأئمتها كـ"مالك بن أنس" وشيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، والقاضي الشوكاني، وأضراب هؤلاء البررة من المتقدمين والمتأخرين، والتفاضل على أبناء جنسهم في الاستفادة من الملاحدة المتفلسفين في المنام.

ولا شك أن هذه الطائفة أشد في هدم بنيان الإسلام من التتار، وأضر على المسلمين في مصائب الدين من بعض الكفار.

ومن كان صنعه تأييد المذهب، وتخريب الملة، والتعاون على الإثم والعدوان، والتحامل على أهل التقوى والإيمان، ويذهب أيامه ولياليه في مثل هذا الشأن، وشغله كل يوم السعي في إزالة الأعراض التي حكمها حكم الأنفس والأموال في التحريم، فماذا يقال عنه، ويكشف عنه؟

ولكن من من الله سبحانه على عباده المؤمنين أن سعي هؤلاء الذين كشفت القناع عن بعض صنائعهم يضيع كلما يزدادون فيه، والله يزيد المتبعين في كل بلد وقرية وقصبة بمزيد فضل منه وبركة، على رغم أنف هؤلاء المنتحلين المبطلين، ويعلو أمرهم كل يوم في كل مكان، على قدر بغضهم لأهل الحق واليقين.

كيف وهذا وعد من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! والله مصدق وعده في عباده: "لاتزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خالفهم أو خذلهم حتى يأتي أمر الله، وتقوم الساعة"؟!!.

فالحمد لله على ما أنجز وعده، وصدق عبده، وهزم الأحزاب وحده، وكان حقا عليه نصر المؤمنين.

[ ص: 182 ] وقد طبع لهذا العهد من كتب السنة القديمة، العزيزة الوجود، وفقهها المحمود المسعود، ما يكثر تعداده، وانتشرت في طلبة الحق، وسارت بها الركبان من بلد إلى بلدان، ونفع الله به من شاء من عباده، وذلك في ازدياد، وكل يوم هو في شأن، ولله الحمد، وعليه الثناء الجميل على ما يكون وعلى ما كان.

ولا غرو أن يجعل الله هذه المحنة في ذاته المقدسة، والمجاهدة في نصرة سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- توطئة لما يأتي به المهدي المنتظر الموعود، وتمهيدا لما يحكم به عيسى ابن مريم -عليهما السلام- عند نزوله من السماء إلى الأرض; لأن الأحاديث قد تواترت بذلك، وقارب الزمان بما هنالك إن شاء الله تعالى.

وقد صرح بعض أهل العلم والمعرفة بأن المهدي يكون أعداؤه مقلدة المذاهب، ويريدون قتله لأمره باتباع ظاهر الكتاب وصريح السنة، ولكن لا يتمكنون منه على هذا; لمكان السيف بيده، ولكونه مستمدا من العزيز الجبار، وأن المسيح -عليه السلام- يأمر بالقرآن والحديث، لا بمذهب النصارى، ويكون حكما عدلا، كما ورد بذلك صحيح الحديث.

وحينئذ يعاديهما المقلدون لمذاهب الرجال من الأئمة وغيرهم، ويبغضونهما طائفة المحرفين للدين، والجاهلين المؤولين، والله غالب على أمره.

وإذا ثبت أن التقليد يغيب في ذلك الزمان من كل قريب وبعيد، ويبقى الإسلام خالصا مخلصا، والدين صافيا نقيا، ويظهر الاتباع والقدوة بسيد الأنبياء، والأسوة بكتاب الله، فهذه الكتب المؤلفة في انتصار الشريعة الحقة، والذب عن السنن، وإثبات الأحكام الأثرية، وتحقيق الفقه السني من أدلة خير البرية، وكلام علماء الأمة الأمية، إن كانت موطئة لهذا الخطب العظيم، والأمر الفخيم، ممهدة لأهل السعادة الحاضرين في هذا العصر، والآتين بعده، طرائق [ ص: 183 ] اتباع السنة والكتاب، فليس ذلك على الله بعزيز.

ومن بقي منا -إن شاء الله تعالى- إلى زمن ظهور المهدي، ونزول المسيح، وخروج الدجال، المرجو على رأس المئة الرابعة عشرة، فسيرى ما ذكرناه هاهنا عيانا لا حجاب عليه، ولا سترة به، ويصدق قولنا، ويذكرنا، ويدعو لنا بخالص الجنان، وصميم الإيمان.

وحيث إن بدعة التقليد عمت الآفاق والأقطار، وابتلي به الكبار والصغار، رأينا أن نتكلم عليها بما يشفي السقيم.

والكتب المؤلفة في هذه المسألة المستقلة في بابها كثيرة جدا، لو ذهبنا نحكي ما في جميعها لجاءت مجلدات تساوي الفتاوى الطويلة العريضة، والمختصرات منها قد كثرت وشاعت.

ففي الإجمال الذي هاهنا مندوحة عن تفصيل يؤدي إلى إملال، ولهذا اقتصرنا في تقريرها على ما مهده صاحب "القول المفيد" وأتى به مؤلف "إعلام الموقعين" ولم نبال بتكرير بعض المطالب الجليلة، والاحتجاجات الجميلة; تثبيتا للحق في مسامع أهله، وتبكيتا لمن بغى على أصحاب النصفة في حزنه وسهله.

فأما "القول المفيد" فقد قال مؤلفه -رحمه الله-: وبعد: فإنه طلب بعض المحققين من أهل العلم أن أجمع له بحثا يشتمل على تحقيق الحق في التقليد، أجائز هو أم لا؟ على وجه لا يبقى بعده شك، ولا يقبل عنده تشكيك.

ولما كان هذا السائل من العلماء المبرزين، كان جوابه على نمط علم المناظرة، فنقول وبالله التوفيق:

لما كان القائل بعدم جواز التقليد قائما في مقام المنع، وكان القائل بالجواز مدعيا، كان الدليل على مدعي الجواز.

التالي السابق


الخدمات العلمية