الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين ) الظاهر أن المائدة نزلت; لأنه تعالى ذكر أنه منزلها ، وبإنزالها قال الجمهور . قال ابن عطية : شرط عليهم شرطه المتعارف في الأمم; أنه من كفر بعد آية الاقتراح ، عذب أشد عذاب . قال الحسن ومجاهد لما سمعوا الشرط أشفقوا فلم تنزل . قال مجاهد : فهو مثل ضربه الله للناس; لئلا يسألوا هذا الآيات ، واختلف من قال إنها نزلت ، هل رفعت بإحداث أحدثوه أم لم ترفع ؟ وقال الأكثرون : أكلوا منها أربعين يوما بكرة وعشية . وقال إسحاق بن عبد الله : يأكلون منها متى شاءوا . وقيل : بطروا فكانت تنزل عليهم يوما بعد يوم . وقال المؤرخون : كانت تنزل عند ارتفاع الضحى ، فيأكلون منها ، ثم ترتفع إلى السماء وهم ينظرون إلى ظلها في الأرض . واختلفوا في كيفية نزولها ، وفيما كان عليها ، وفي عدد من أكل منها ، وفيما آل إليه حال من أكل منها ، اختلافا مضطربا متعارضا ذكره المفسرون ، ضربت عن ذكره صفحا ، إذ ليس منه شيء يدل عليه لفظ الآية . وأحسن ما يقال فيه ما خرجه الترمذي في أبواب التفسير عن عمار بن ياسر ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أنزلت المائدة من السماء خبزا ولحما ، وأمروا أن لا يدخروا لغد ، ولا يخونوا ، فخانوا ، وادخروا ، ورفعوا لغد ، فمسخوا قردة وخنازير " . قال أبو عيسى هذا حديث رواه عاصم وغير واحد عن سعيد بن عروة عن قتادة عن خلاس عن عمار بن ياسر ، مرفوعا ، ولا نعلمه مرفوعا ، إلا من حديث الحسن بن قزعة ; حدثنا حميد بن مسعدة ، قال : حدثنا سفيان بن حبيب عن سعيد بن عروة نحوه ، ولم يرفعه ، وهذا أصح من حديث الحسن بن قزعة ، ولا نعلم الحديث مرفوعا أصلا . وقرأ نافع وابن عامر وعاصم ( منزلها ) مشددا . وقرأ باقي السبعة مخففا ، والأعمش وطلحة بن مصرف ، إني سأنزلها ، بسين الاستقبال بعد ؛ أي : بعد إنزالها . والعذاب هنا بمعنى التعذيب ، فانتصابه انتصاب المصدر ، وأجاز أبو البقاء أن يكون مفعولا به على السعة ، وهو إعراب سائغ . ولا يجوز أن يراد بالعذاب; ما يعذب به إذ يلزم أن يتعدى إليه الفعل بحرف الجر ، فكان يكون التركيب; فإني أعذبه بعذاب . لا يقال حذف حرف الجر ، فتعدى الفعل إليه ، فنصبه; لأن حذف الحرف في مثل هذا مختص بالضرورة . والظاهر أن الضمير في لا أعذبه يعود على العذاب بمعنى التعذيب ، والمعنى; لا أعذب مثل التعذيب أحدا . وأجاز أبو البقاء أن يكون التقدير لا أعذب به أحدا ، وأن يكون مفعولا به على السعة ، وأن يكون ضمير المصدر المؤكد ، كقولك : ظننته زيدا منطلقا ، فلا يعود على العذاب . ورابط الجملة الواقعة صفة لعذاب هو العموم الذي في المصدر المؤكد ، كقولك : هو جنس ، و ( عذابا ) نكرة ، فانتظمه المصدر ، كما انتظم اسم الجنس زيدا في : زيد نعم الرجل ، وأجاز أيضا أن يكون ضمير ( من ) على حذف; أي لا أعذب مثل عذاب الكافر ، وهذه تقادير متكلفة ينبغي أن [ ص: 58 ] ينزه القرآن عنها والعذاب . قال ابن عباس : مسخهم خنازير . وقال غيره قردة وخنازير ، ووقع ذلك في الدنيا والكفر المشار إليه الموجب تعذيبهم ، قيل : ارتدادهم . وقيل : شكهم في عيسى ، وتشكيكهم الناس . وقيل : مخالفتهم الأمر بأن لا يخونوا ، ولا يخبئوا ، ولا يدخروا ، قاله قتادة . وقال عمار بن ياسر : لم يتم يومهم حتى خانوا ، فادخروا ، ورفعوا . وظاهر العالمين العموم . وقيل : عالمي زمانهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية