الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما ذكر قولهم الدال على حسن اعتقادهم؛ وجميل استعدادهم؛ ذكر جزاءهم عليه؛ فقال: فأثابهم الله ؛ أي: الذي له جميع صفات الكمال؛ بما قالوا ؛ أي: جعل ثوابهم على هذا القول المستند إلى خلوص النية؛ الناشئ عن حسن الطوية؛ جنات تجري ؛ ولما كان الماء لو استغرق المكان أفسد؛ أثبت الجار؛ فقال: من تحتها الأنهار ؛ ولما كانت اللذة لا تكمل إلا بالدوام؛ قال: خالدين فيها ؛ ولما كان التقدير: "لإحسانهم"؛ طرد الأمر في غيرهم؛ فقال: وذلك ؛ أي: الجزاء العظيم؛ جزاء المحسنين ؛ أي: كلهم؛ واختلفوا في هذه الواقعة؛ بعد اتفاقهم على أنها في النجاشي؛ وأصحابه؛ وذلك مبسوط في شرحي لنظمي للسيرة النبوية؛ فمن ذلك أنه لما قدم جعفر بن أبي طالب - رضي اللـه عنه - من مهاجرة الحبشة مع أصحابه - رضي اللـه عنهم -؛ قدم معهم سبعون رجلا؛ بعثهم النجاشي - رضي اللـه عنه -؛ وعن الجميع؛ وفدا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ [ ص: 272 ] عليهم ثياب الصوف؛ اثنان وستون من الحبشة؛ وثمانية من أهل الشام؛ وهم: بحيرا الراهب؛ وأبرهة؛ وإدريس؛ وأشرف؛ وثمامة؛ وقثم؛ ودريد؛ وأيمن؛ فقرأ عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سورة "يـس" إلى آخرها؛ فبكوا حين سمعوا القرآن؛ وآمنوا؛ وقالوا: ما أشبه هذا بما كان ينزل على عيسى ! فأنزل الله فيهم هذه الآية: لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا ؛ إلى آخرها؛ ذكر ذلك الواحدي في أسباب النزول؛ بغير سند؛ ثم أسند عن سعيد بن جبير؛ في قوله (تعالى): ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا ؛ قال: بعث النجاشي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من خيار أصحابه ثلاثين رجلا؛ فقرأ عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "يـس"؛ فبكوا؛ فنزلت فيهم هذه الآية؛ وإذا نظرت مكاتبات النبي - صلى الله عليه وسلم - للملوك ازددت بصيرة في صدق هذه الآية؛ فإنه ما كاتب نصرانيا إلا آمن؛ أو كان لينا؛ ولو لم يسلم؛ كهرقل؛ والمقوقس؛ وهوذة بن علي؛ وغيرهم؛ وغايتهم أنهم ضنوا بملكهم؛ وأما غير النصارى فإنهم كانوا على غاية الفظاظة؛ ككسرى؛ فإنه مزق كتابه - صلى الله عليه وسلم -؛ ولم يجز رسوله بشيء؛ وأما اليهود فكانوا جيران الأنصار ؛ ومواليهم؛ [ ص: 273 ] وأحبابهم؛ ومع ذلك فأحوالهم في العداوة غاية؛ كما هو واضح في السير؛ مبين جدا في شرحي لنظمي للسيرة؛ وكان السر في ذلك - مع ما تقدم من باعث الزهد - أنه لما كان عيسى - عليه السلام - أقرب الأنبياء زمنا من زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان المنتمون إليه؛ ولو كانوا كفرة؛ أقرب الأمم مودة لاتباع النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ وإلى ذلك يشير ما رواه الشيخان؛ في الفضائل؛ عن أبي هريرة - رضي اللـه عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم؛ في الدنيا؛ والآخرة؛ الأنبياء أولاد علات - وفي رواية: أبناء؛ وفي رواية: إخوة لعلات - أمهاتهم شتى؛ ودينهم واحد؛ وليس بيني وبينه - وفي رواية: وليس بيني وبين عيسى - نبي".

                                                                                                                                                                                                                                      وفي رواية لمسلم: "أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم؛ في الأولى والآخرة"؛ قالوا: كيف يا رسول الله؟ قال: "الأنبياء إخوة من علات؛ أمهاتهم شتى؛ ودينهم واحد؛ فليس بيننا نبي".

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية