الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          ؟ 737 - مسألة : ولا كفارة على من تعمد فطرا في رمضان بما لم يبح له ، إلا من وطئ في الفرج من امرأته أو أمته المباح له وطؤهما إذا لم يكن صائما فقط ; فإن عليه الكفارة ، على ما نصف بعد هذا إن شاء الله تعالى ، ولا يقدر القضاء ، لما ذكرنا ؟ برهان ذلك - : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يوجب الكفارة إلا على واطئ امرأته عامدا ، واسم امرأته يقع على الأمة المباح وطؤها ، كما يقع على الزوجة ، ولا جمع للمرأة من لفظها ; لكن جمع المرأة على نساء ، ولا واحد للنساء من لفظه ، قال تعالى : { نساؤكم حرث لكم } فدخل في ذلك - بلا خلاف - : الأمة المباحة ، والزوجة ؟ حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد [ ص: 314 ] ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا يحيى بن يحيى ، وأبو بكر بن أبي شيبة ، وزهير بن حرب ، ومحمد بن عبد الله بن نمير ، كلهم عن سفيان بن عيينة عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال { جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : هلكت يا رسول الله ، قال : وما أهلكك ؟ قال : وقعت على امرأتي في رمضان ، قال : هل تجد ما تعتق رقبة ؟ قال : لا ، قال : فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين ؟ قال : لا ، قال : فهل تجد ما تطعم ستين مسكينا ؟ قال لا ثم جلس ، فأتي النبي صلى الله عليه وسلم بعرق فيه تمر ، فقال : تصدق بهذا ؟ فقال : أفقر منا فما بين لابتيها أهل بيت أحوج إليه منا فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه ، ثم قال : اذهب فأطعمه أهلك } .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : هكذا رواه منصور بن المعتمر ، وشعيب بن أبي حمزة ، والليث بن سعد ، والأوزاعي ، ومعمر ، وعراك بن مالك كلهم عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                          وخالف أشهب في هذا اللفظ سائر أصحاب الليث ؟ فلم يوجب الكفارة على غير من ذكرنا ، وقد قال عليه السلام { : إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام } فلا يحل مال أحد بغير نص أو إجماع متيقن .

                                                                                                                                                                                          ولا يحل لأحد إيجاب غرامة لم يوجبها القرآن ولا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيتعدى بذلك حدود الله ، ويبيح المال المحرم ، ويشرع ما لم يأذن به الله تعالى ؟ [ ص: 315 ] فإن قيل : فلم لم توجبوا الكفارة على كل من أفطر في رمضان فطرا لم يبح له ، بأي شيء أفطر ؟ بما رويتموه من طريق مالك ، وابن جريج ، ويحيى بن سعيد الأنصاري ، كلهم عن الزهري ، ومن طريق أشهب عن الليث عن الزهري ، ثم اتفقوا : عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة { أن رجلا أفطر في نهار رمضان ، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكفر بعتق رقبة ، أو صيام شهرين متتابعين ، أو إطعام ستين مسكينا ؟ فقال : لا أجد ، فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرق تمر ، فقال : خذ هذا فتصدق به ؟ فقال : يا رسول الله لا أجد [ ص: 316 ] أحوج إليه مني فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه ، وقال : كله } .

                                                                                                                                                                                          قلنا : لأنه خبر واحد عن رجل واحد ، في قصة واحدة ، بلا شك ، فرواه من ذكرنا [ ص: 317 ] عن الزهري مجملا مختصرا ، ورواه الآخرون الذي ذكرنا قبل وأتوا بلفظ الخبر كما وقع ، كما سئل عليه السلام ، وكما أفتى ، وبينوا فيه أن تلك القضية إنما كانت وطئا لامرأته ، ورتبوا الكفارة كما أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحال مالك ، وابن جريج ، ويحيى : صفة الترتيب ، وأجملوا الأمر ، وأتوا بغير لفظ النبي صلى الله عليه وسلم فلم يجز الأخذ بما رووه من ذلك ، مما هو لفظ من دون النبي عليه السلام ممن اختصر الخبر وأجمله ، وكان الفرض أخذ فتيا النبي عليه السلام كما أفتى بها ، بنص كلامه فيما أفتى به ؟ فإن قيل : فإنا نقيس كل مفطر على المفطر بالوطء ; لأنه كله فطر محرم ؟ قلنا : القياس كله باطل ، ثم لو كان حقا لكان هاهنا هذا القياس باطلا ; لأنه قد جاء خبر المتقيئ عمدا ، وفيه القضاء ، ولم يذكر فيه كفارة .

                                                                                                                                                                                          فما الذي جعل قياس سائر المفطرين على حكم الواطئ أولى من قياسهم على حكم المتعمد للقيء ؟ والآكل ، والشارب أشبه بالمتعمد للقيء منهما بالواطئ ; لأن فطرهم كلهم من حلوقهم لا من فروجهم ، بخلاف الواطئ ; ولأن فطرهم كلهم لا يوجب الغسل ، بخلاف فطر الواطئ ; فهذا أصح في القياس ، لو كان القياس حقا ؟ وقد أجمعوا على أنه لا كفارة على المتعمد لقطع صلاته ; والصلاة أعظم حرمة وآكد من الصيام ، فصارت الكفارة خارجة عن الأصل ; فلم يجز أن يقاس على خبرها ؟ فإن قال : إني أوجب الكفارة على المتعمد للقيء ; لأني أدخله في جملة من أفطر فأمر بالكفارة ، وأجعل هذا الخبر الذي رواه مالك ، وابن جريج ، ويحيى عن الزهري - : زائدا على ما في خبر المتعمد القيء ؟ قلنا : هذا لازم لكل من استعمل لفظ خبر مالك ، وابن جريج عن الزهري لازم له ، وإلا فهو متناقض ، وقد قال بهذا بعض الفقهاء .

                                                                                                                                                                                          وروي عن أبي ثور ، وابن الماجشون ، إلا أن من ذهب إلى هذا لم يكلم إلا في تغليب رواية سائر أصحاب الزهري التي قدمنا على ما اختصره هؤلاء فقط . [ ص: 318 ]

                                                                                                                                                                                          وليس إلا قولنا أو قول من أوجب الكفارة والقضاء على كل مفطر ، بأي وجه أفطر ، بعموم رواية مالك ، وابن جريج ، ويحيى ، وبالقياس جملة على المفطر بالوطء وبالقيء .

                                                                                                                                                                                          وأما الحنفيون ، والمالكيون ، والشافعيون : فلم يتعلقوا بشيء من هذا الخبر أصلا ، ولا بالقياس ، ولا بقول أحد من السلف لأنهم أوجبوا الكفارة على بعض من أفطر بغير الوطء فتعدوا ما رواه جمهور أصحاب الزهري ، وأسقطوا الكفارة عن بعض من أفطر بغير الوطء ، مما قد أوجبها فيه غيرهم ، فخالفوا ما رواه مالك ، ويحيى ، وابن جريج ; فخالفوا كل لفظ خبر ورد في ذلك جملة وخالفوا القياس ; إذ لم يوجبوا الكفارة على بعض من أفطر بغير الوطء وبالوطء ، ولم يتبعوا ظاهر الآثار ; إذ أوجبوها على بعض من أفطر بغير الوطء على ما نذكر من أقوالهم بعد هذا ; فلا يجوز إيهامهم بأنهم تعلقوا في هذا الموضع بشيء من الآثار ، أو بشيء من القياس - : على من نبهناه على تخاذل أقوالهم في ذلك وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : وقد اختلف السلف في هذا ، فنذكر إن شاء الله تعالى ما يسر الله عز وجل لذكره من أقوالهم ، ثم نعقب بأقوال الحنفيين ، والمالكيين ، والشافعيين ، التي لا متعلق لها بالقرآن ولا بشيء من الروايات ، والسنن ، لا صحيحها ولا سقيمها ، ولا بإجماع ، ولا بقول صاحب ، ولا بقياس ، ولا برأي له وجه ، ولا باحتياط ، وبالله تعالى نتأيد ؟ فقالت طائفة : لا كفارة على مفطر في رمضان بوطء ولا بغيره - : روينا بأصح إسناد عن الحجاج بن المنهال : ثنا أبو عوانة عن المغيرة بن مقسم - عن إبراهيم النخعي ، في رجل أفطر يوما من رمضان ، قال : يستغفر الله ويصوم يوما مكانه ؟ وعن الحجاج بن المنهال عن حماد بن سلمة عن حماد بن أبي سليمان ، وأيوب السختياني ، وحبيب بن الشهيد ، وهشام بن حسان ، قال حماد : عن إبراهيم النخعي ، وقال أيوب ، وحبيب وهشام كلهم عن محمد بن سيرين . ثم اتفق إبراهيم ، وابن سيرين ، فيمن وطئ عمدا في رمضان : أنه يتوب إلى الله [ ص: 319 ] تعالى ، ويتقرب إليه ما استطاع ، ويصوم يوما مكانه .

                                                                                                                                                                                          ورويناه أيضا من طريق معمر عن أيوب عن ابن سيرين فيمن أكل يوما من رمضان عامدا ، قال : يقضي يوما ويستغفر الله ؟ ومن طريق الحجاج بن المنهال : ثنا جرير بن حازم حدثني يعلى بن حكيم قال : سألت سعيد بن جبير عن رجل وقع بامرأته في رمضان : ما يكفره ؟ فقال : ما ندري ما يكفره ذنب أو خطيئة ، يصنع الله تعالى به فيه ما يشاء ويصوم يوما مكانه ؟ ومن طريق حجاج بن المنهال : ثنا أبو عوانة عن إسماعيل بن أبي خالد عن عامر الشعبي أنه قال فيمن أفطر يوما من رمضان : لو كنت أنا لصمت يوما مكانه ؟ فهؤلاء : ابن سيرين ، والنخعي ، والشعبي ، وسعيد بن جبير : لا يرون على الواطئ في نهار رمضان عامدا كفارة وقالت طائفة بالكفارة ، ثم اختلفوا فروينا من طريق وكيع عن جعفر بن برقان عن ثابت بن الحجاج الكلابي عن عوف بن مالك الأشجعي قال قال عمر بن الخطاب : صوم يوم من غير رمضان وإطعام مسكين يعدل يوما من رمضان وجمع بين أصبعيه ؟ قال أبو محمد : وعهدناهم يقلدون عمر في أجل العنين ، وفي حد الخمر ثمانين .

                                                                                                                                                                                          ولا يصح في ذلك شيء عن عمر ، فليقلدوه هاهنا ; فهو أثبت عنه مما قلدوه ولكنهم متحكمون بالباطل في الدين وقالت طائفة كما روينا عن المعتمر بن سليمان : قرأت على فضيل عن أبي حريز قال : حدثني أيفع قال : سألت سعيد بن جبير عمن أفطر في رمضان ؟ فقال : كان ابن عباس يقول : من أفطر في رمضان فعليه عتق رقبة ، أو صوم شهر ، أو إطعام ثلاثين مسكينا ، ومن وقع على امرأته وهي حائض ، وسمع أذان الجمعة ولم يجمع ، وليس له عذر - : كذلك عتق رقبة ؟ [ ص: 320 ] قال علي : وهذا قول لا نص فيه ، وعهدنا بالحنفيين يقولون في مثل هذا - إذا وافق أهواءهم - : مثل هذا لا يقال بالرأي ، فلم يبق إلا أنه توقيف ، فيلزمهم أن يقولوه هاهنا ، وإلا فهم متلاعبون بالدين ؟ وقالت طائفة كما روينا عن وكيع عن سفيان الثوري عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم النخعي ، في رجل أفطر يوما من رمضان : يصوم ثلاثة آلاف يوم . وقالت طائفة كما روينا من طريق حماد بن سلمة : أنا حميد أنه سأل الحسن البصري عن رجل أفطر في رمضان أربعة أيام يأكل ويشرب وينكح ؟ فقال الحسن : يعتق أربعة رقاب ، فإن لم يجد فأربع من البدن ، فإن لم يجد فعشرين صاعا من تمر لكل يوم ، فإن لم يجد صام لكل يوم يومين ؟ وقد ذكرنا مثل هذا مرسلا عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق سعيد بن المسيب .

                                                                                                                                                                                          وروينا أيضا من طريق عبد الرزاق عن معمر عن قتادة والحسن { أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الذي وطئ امرأته في رمضان : رقبة ، ثم بدنة } ، ثم ذكر نحو حديث الزهري في العرق من التمر ؟ ومن طريق وكيع عن الربيع بن صبيح عن الحسن { أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم وقد واقع أهله في رمضان ، فقال له عليه السلام : أعتق رقبة ؟ قال : لا أجد ، قال : أهد بدنة ؟ قال : لا أجد ، قال : صم شهرين ، قال : لا أستطيع ، قال : أطعم ستين مسكينا ؟ قال : لا أجد ، فأتي النبي صلى الله عليه وسلم بمكتل فيه تمر فقال : تصدق بهذا ؟ فقال : يا رسول الله : ما بينهما أهل بيت أحوج منا ، قال : كله أنت وعيالك } ؟ ومن طريق حماد بن سلمة : أنا عمارة بن ميمون عن عطاء بن أبي رباح { أن [ ص: 321 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الذي وقع بامرأته في رمضان أن يعتق رقبة ؟ قال : لا أجد ، قال : أهد هديا ؟ قال : لا أجده وذكر باقي الحديث } ؟ فإن تعللوا في مرسل سعيد بأنه ذكر له ما رواه عطاء الخراساني عنه من ذلك ؟ فقال سعيد : كذب ، إنما قلت له : تصدق تصدق - : فإن الحسن وقتادة ، وعطاء رووه أيضا مرسلا وفيه الهدي بالبدنة .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : عهدنا بالحنفيين ، والمالكيين يقولون : المرسل كالمسند ، وهذا مرسل من طرق ، فيلزمهم القول به ; لأنه زاد على سائر الأحاديث ذكر الهدي .

                                                                                                                                                                                          وأيضا - من طريق القياس : فإن البدنة ، والهدي يجبر بهما نقص الحج ; ولم نجد شيئا من الأعمال يجبر نقصه بكفارة إلا الحج ، والصوم ; فيجب أن يكون للهدي في الصوم مدخل كما له في الحج ; ولكن القوم لا يثبتون على شيء ؟ وأما نحن فلا حجة في مرسل عندنا أصلا .

                                                                                                                                                                                          وقالت طائفة كما روينا من طريق عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال : سألت سعيد بن المسيب عن رجل أكل في رمضان عامدا ؟ فقال : عليه صيام شهر ، قلت : يومين ؟ قال : صيام شهر ، قال : فعددت أياما فقال : صيام شهر ؟ ومن طريق وكيع عن هشام الدستوائي عن قتادة عن سعيد بن المسيب في الذي يفطر من رمضان متعمدا : عليه صوم شهر ؟ ومن طريق الحجاج بن المنهال : ثنا همام بن يحيى عن قتادة عن سعيد بن المسيب قال : عليه لكل يوم أفطر شهر ؟ قال علي : يحتمل هذا القول أنه أراد شهرا شهرا عن كل يوم ، ويحتمل ما رواه معمر من أن عليه لكل يوم أفطر شهرا واحدا ، وهذا أظهر وأولى ، لتيقن الروايات عنه ؟ وحجة من قال بهذا : ما رويناه من طريق أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار قال : ثنا أحمد بن يحيى الصوفي الكوفي ثنا أبو غسان ثنا مندل عن عبد الوارث عن [ ص: 322 ] أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { : من أفطر يوما من رمضان فعليه صوم شهر } .

                                                                                                                                                                                          قال علي : مندل ضعيف ، وعبد الوارث مجهول . ولو صح لقلنا به ، ويلزم القول به من لم يبال بالضعفاء ; لأنه زائد على سائر الأخبار ، ويلزم أيضا المالكيين القائلين بأن نية واحدة في أول الشهر تجزئ لجميعه ; لأنه كله كصلاة واحدة ، وكيوم واحد ؟

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية