الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( باب صلاة الخوف ) ( إذا اشتد الخوف جعل الإمام الناس طائفتين : طائفة إلى وجه العدو ، وطائفة خلفه ، [ ص: 97 ] فيصلي بهذه الطائفة ركعة وسجدتين ، فإذا رفع رأسه من السجدة الثانية مضت هذه الطائفة إلى وجه العدو وجاءت تلك الطائفة ، فيصلي بهم الإمام ركعة وسجدتين وتشهد وسلم ولم يسلموا ، وذهبوا إلى وجه العدو ، وجاءت الطائفة الأولى فصلوا ركعة وسجدتين وحدانا بغير قراءة ) ; لأنهم لاحقون ( وتشهدوا وسلموا ومضوا إلى وجه العدو ، وجاءت الطائفة الأخرى ، وصلوا ركعة وسجدتين بقراءة ) ; لأنهم مسبوقون ( وتشهدوا وسلموا ) والأصل في رواية ابن مسعود { أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الخوف على الصفة التي قلنا } . [ ص: 98 ] وأبو يوسف وإن أنكر شرعيتها في زماننا فهو محجوج عليه بما روينا .

التالي السابق


( باب صلاة الخوف ) أوردها بعد الاستسقاء ; لأنهما وإن اشتركا في أن شرعيتهما بعارض خوف لكن سبب هذا الخوف في الاستسقاء سماوي ، وهنا اختياري للعباد وهو كفر الكافر وظلم الظالم ; ولأن أثر العارض في الاستسقاء في أصل الصلاة وهنا في وصفها ( قوله : إذا اشتد الخوف ) اشتداده ليس بشرط بل الشرط حضور عدو أو سبع ، فلو رأوا سوادا ظنوه عدوا صلوها ، فإن تبين كما ظنوا جازت لتبين سبب الرخصة ، وإن ظهر خلافه لم تجز ، إلا إن ظهر بعد أن انصرفت الطائفة من نوبتها في الصلاة قبل أن تتجاوز الصفوف فإن لهم أن يبنوا استحسانا كمن انصرف على ظن الحدث يتوقف الفساد إذا ظهر أنه لم يحدث على مجاوزة الصفوف ، ولو شرعوا بحضرة العدو فذهبوا لا يجوز [ ص: 97 ] لهم الانحراف والانصراف لزوال سبب الرخصة ، ولو شرعوا في صلاتهم ثم حضر جاز الانحراف لوجود المبيح .

واعلم أن صلاة الخوف على الصفة المذكورة إنما تلزم إذا تنازع القوم في الصلاة خلف الإمام ، أما إذا لم يتنازعوا فالأفضل أن يصلي بإحدى الطائفتين تمام الصلاة ، ويصلي بالطائفة الأخرى إمام آخر تمامها ( قوله : فيصلي بهذه الطائفة ركعتين وسجدتين ) من الرباعية إن كان مسافرا أو كانت الفجر أو الجمعة أو العيد . ( قوله : مضت هذه الطائفة ) يعني مشاة ، فإن ركبوا في ذهابهم فسدت صلاتهم ( قوله : وجاءت الطائفة الأولى إلى قوله : لأنهم مسبوقون ) يدخل في هذا المقيم خلف المسافر حتى يقضي ثلاث ركعات بلا قراءة إن كان من الطائفة الأولى ، وبقراءة إن كان من الثانية .

( قوله : والأصل فيه رواية ابن مسعود رضي الله عنه إلخ ) روى أبو داود عن خفيف الجزري عن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود قال { صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقاموا صفا خلفه وصفا مستقبل العدو فصلى بهم صلى الله عليه وسلم ركعة ، ثم جاء الآخرون فقاموا في مقامهم واستقبل هؤلاء العدو فصلى بهم صلى الله عليه وسلم ركعة ، ثم سلم فقام هؤلاء فصلوا ; لأنفسهم ركعة وسلموا ، ثم ذهبوا فقاموا مقام أولئك مستقبلي العدو ، ورجع أولئك إلى مقامهم فصلوا لأنفسهم ركعة ثم سلموا } وأعل بأبي عبيدة لم يسمع من أبيه وخفيف ليس بالقوي . قيل : ويمكن أن يحمل على حديث ابن عمر في الكتب الستة واللفظ للبخاري قال { غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل نجد ، فوازينا العدو فصاففناهم ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي لنا ، فقامت طائفة معه فصلى وأقبلت طائفة على العدو وركع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن معه وسجد سجدتين ثم انصرفوا مكان الطائفة الأولى التي لم تصل ، فجاءوا فركع رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم ركعة وسجد سجدتين ثم سلم ، فقام كل واحد منهم فركع لنفسه ركعة وسجد سجدتين ثم سلم ، فقام كل واحد منهم فركع لنفسه ركعة وسجد سجدتين } ولا يخفى أن كلا من الحديثين إنما يدل على بعض المطلوب وهو مشي الطائفة الأولى وإتمام الطائفة الثانية في مكانها من خلف الإمام وهو أقل تغيرا .

وقد روي تمام صورة الكتاب موقوفا على ابن عباس من رواية أبي حنيفة ، ذكره محمد في كتاب الآثار ، وساق إسناد الإمام ، ولا يخفى أن ذلك مما لا مجال للرأي فيه ; لأنه تغيير [ ص: 98 ] بالمنافي في الصلاة فالموقوف فيه كالمرفوع . ( قوله : وأبو يوسف ) روي عن أبي يوسف جوازها مطلقا ، وقيل هو قوله الأول .

وصفتها عنده فيما إذا كان في جهة القبلة أن يحرموا مع الإمام كلهم ويركعوا ، فإذا سجد سجد معه الصف الأول والثاني يحرسونهم ، فإذا رفع رأسه تأخر الصف الأول وتقدم الثاني ، فإذا سجد سجدوا معه ، وهكذا يفعل في كل ركعة . والحجة عليه ما روينا من حديث ابن عمر وابن مسعود ، وقال سبحانه { فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورئكم ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك } جعلهم سبحانه وتعالى طائفتين ، وصرح بأن بعضهم فاته شيء من الصلاة معه وعلى ما ذكره لم يفتهم شيء .

وقول الشافعي : إذا رفع رأسه من السجدة الثانية انتظر هذه الطائفة حتى تصلي ركعتها الثانية وتسلم وتذهب وتأتي الأخرى فيصلي بهم ركعته الثانية ، فإذا رفع رأسه من السجدة الثانية انتظر هذه الطائفة حتى تصلي ركعتها الثانية وتشهد وسلم وسلموا معه . ومذهب مالك هذا أيضا إلا أنه يتشهد ويسلم ولا ينتظرهم فيصلون ركعتهم بعد تسليمه ، والكل من فعله عليه السلام مقبول ، ورجحنا نحن ما ذهبنا إليه من الكيفية بأنه أوفق بالمعهود استقراره شرعا في الصلاة ، وهو أن لا يركع المؤتم ويسجد قبل الإمام للنهي عنه ، وأن لا ينقلب موضوع الإمامة حيث ينتظر الإمام المأموم .

وروي عنه أنها ليست مشروعة إلا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى { وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة } الآية . شرط لإقامتها [ ص: 99 ] كونه فيهم فلا تجوز إذا لم يكن فيهم . قال في النهاية : لا حجة لمن تمسك بها لما عرف من أصلنا أن المعلق بالشرط لا يوجب عدم الحكم عند عدم الشرط بل هو موقوف على قيام الدليل ، فإذا قام على وجود الحكم لزم وقد قام هنا ، وهو فعل الصحابة رضوان الله عليهم بعد وفاته عليه السلام . انتهى .

ولا يخفى أن استدلال أبي يوسف ليس باعتبار مفهوم الشرط ; ليدفع بأنه ليس بحجة ، بل بأن الصلاة مع المنافي لا تجوز في الشرع ثم إنه أجازها في صورة بشرط فعند عدمه تبقى على ما كان من عدم الشرعية لا أن عدم الشرعية عند عدمه مدلول للتركيب الشرطي فالجواب الحق أن الأصل كما انتفى بالآية حال كونه فيهم كذلك انتفى بعده بفعل الصحابة من غير نكير ، فدل إجماعهم على علمهم من جهة الشارع بعدم اختصاصها بحال كونه فيهم ، فمن ذلك ما في أبي داود : أنهم غزوا مع عبد الرحمن بن سمرة كابل فصلى بنا صلاة الخوف وروي أن عليا صلاها يوم صفين ، وصلاها أبو موسى الأشعري بأصبهان ، وسعد بن أبي وقاص في حرب المجوس بطبرستان ومعه الحسن بن علي وحذيفة بن اليمان وعبد الله بن عمرو بن العاص ، وسألها سعيد بن العاص أبا سعيد الخدري فعلمه فأقامها .

وما في البخاري في تفسير سورة البقرة عن نافع : أن ابن عمر كان إذا سئل عن صلاة الخوف قال : يتقدم الإمام وطائفة من الناس فيصلي بهم ركعة وتكون طائفة منهم بينهم وبين العدو لم يصلوا ، فإذا صلى الذين معه ركعة استأخروا مكان الذين لم يصلوا ولا يسلمون ، ويتقدم الذين لم يصلوا فيصلون معه ركعة ثم ينصرف الإمام ، وقد صلى ركعتين ، فيقوم كل واحد من الطائفتين فيصلون ; لأنفسهم ركعة بعد أن ينصرف الإمام ، فيكون كل واحد من الطائفتين قد صلى ركعتين ، فإن كان خوف هو أشد من ذلك صلوا رجالا قياما على أقدامهم أو ركبانا مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها .

وفي الترمذي عن سهل بن أبي حثمة { أنه قال في صلاة الخوف قال : يقوم الإمام } الحديث . فالصيغتان في الحديثين صيغة الفتوى لا إخبار عما كان عليه السلام فعل وإلا لقالا : قام عليه السلام فصف خلفه إلخ دون أن يقول يقوم الإمام ، ولذا قال مالك في الأول : قال نافع : لا أرى عبد الله بن عمر ذكر ذلك إلا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وقال محمد بن بشار في الثاني : سألت يحيى بن سعيد القطان عن هذا الحديث فحدثني عن شعبة عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن صالح بن خوات عن سهل بن أبي حثمة عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثل حديث يحيى بن سعيد الأنصاري ، قال الترمذي : حسن صحيح ، لم يرفعه يحيى بن سعيد الأنصاري عن القاسم بن محمد ، ورفعه شعبة عن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد ، وحينئذ لا يخفى أن قول المصنف فهو محجوج بما روينا ليس بشيء ; لأن أبا يوسف أخبر بما روى عنه عليه السلام ثم يقوم لا تصلى بعده .




الخدمات العلمية