الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        [ حكم خروج نظام الملك للحج ]

        517 - ومما يتعين الآن إيضاحه قضية ناجزة ، يئول أثر ضرها ، وخيرها ، إلى الخلائق ، على تفاوت مناصبها ، ويظهر ( 193 ) وقعها في مشارق الأرض ومغاربها .

        وهي أنه شاع في بلاد الإسلام [ تشوف ] صدر الأنام ، إلى بيت الله الحرام ، وقد طوق الله هذا الداعي من معرفة الحلال والحرام ، ما يوجب عليه إيضاح الكلام ، في هذا المرام ، وكشف أسباب الاستبهام والاستعجام ، فأقول وبفضل الله الاعتصام :

        إن كان ما صمم صدر الإسلام عليه الرأي والاعتزام ، من ابتغاء تيك المشاعر العظام ، متضمنا قطع نظره عن الخليقة ، فهو محرم على الحقيقة .

        518 – وأنا أوضح المسلك في ذلك ، وأبين طريقه ، فليست [ ص: 365 ] الأعمال قربا لأعيانها ، وذواتها ، وليست عبادات لما هي عليها من خصائص صفاتها ، وإنما تقع طاعة من حيث توافق قضايا أمر الله في أوقاتها .

        فالصلاة الموظفة على العبد لو أتى بها على أبلغ وجه في الخضوع والاستكانة والخشوع ، قبل أوانها ، لم تقع موقع الاعتداد ، والصلاة ممن هو من أهلها من أفضل القربات ، ولو أقدم عليها محدث كان ما جاء به من المنكرات .

        519 - فالحج إحرام ووقوف ، وإفاضة وطواف ببيت [ مشيد ] من أحجار سود ، وتردد بين جبلين ، على طوري المشي والسعي ، وحلاق إلى هيآت وآداب ، وإنما تقع هذه الأفعال قربا من حيث توافق أمر الله تعالى وتقدس .

        وقد أجمع المسلمون قاطبة على أن من غلب على الظن إفضاء خروجه إلى الحج إلى تعرضه أو تعرض طوائف من المسلمين للغرر والخطر ، لم يجز له أن يغرر بنفسه وبذويه ، ومن يتصل [ ص: 366 ] به ويليه ، بل يتعين عليه تأخير ما ينتحيه ، إلى أن يتحقق تمام الاستمكان فيه .

        وهذا في آحاد الناس ومن يختص أمره به ، وبأخصه .

        520 - فأما من ناط الله به أمور المسلمين ، وربط بنظره معاقد ( 194 ) الدين ، وظل للإسلام كافلا وملاذا ، وكهفا ومعاذا ، ولو قطع عن استصلاح العالمين ، ومنع الغاشمين ، ودفع الظالمين ، وقمع الناجمين - نظره ، لارتبك العباد ، والرعايا والأجناد ، في مهاوي العبث والفساد ، واستطال المبتدعة الراتعون ، وثار في أطراف الخطة النابغون ، وزالت نضارة السنة وبهجتها ، ودرست أعلامها ومحجتها .

        521 - فكيف يحل لمن يحل في دين الله هذا المحل ، وقد أحال الله عليه العقد والحل ، وأناط بإقباله وإعراضه العز والذل ، وعلق بمنحه ومنعه الكثر والقل ، وربط بلحاظه وتوقيعاته وألفاظه الرفع والخفض ، والإبرام والنقض ، والبسط والقبض - أن يقدم نسكا يخصه ، على القيام بمناظم الإسلام ، [ ص: 367 ] ومصالح الأنام وأية حجة تعدل هذه الخطوب الجسام ، والأمور العظام بحجه ؟

        522 - فإن اعترض متكلف في أدراج الكلام ، وقال : من جرد الاعتصام بطول الله وفضله ، ووصل حبل أمله بحبله ، كفاه ملاحظة الأغيار ، ووقاه ما يحاذر ويجتنب ، ورزقه من حيث لا يحتسب ، وقد ضمن الله أن يحفظ من الدين نظامه إلى قيام القيامة ، والاستمساك بكفاية رب الأرباب أولى من الاتكال على الأسباب .

        قلت : هذا من الطوام التي لا يتحصل منها طائل ، ولا يعثر الباحث عنها على حاصل ، كلمة حق أريد بها باطل ، ولو حكمنا مساق هذه الطامات لجرتنا إلى تعطيل القربات ، وحسم أسباب الخيرات ، ولاستوت على حكمها الطاعات والمنكرات ، وبطلت قواعد الشرائع ، واتجهت إليها ضروب الوقائع وأضحى ما شبب به المعترض في التعطيل من أقوى الذرائع .

        ( 195 ) فمضمون [ ص: 368 ] ما بلغه المرسلون أسباب الخير واجتناب دواعي الضير ، ثم الأكل سبب الشبع ، والشرب سبب الري ، وهلم جرا ، إلى كل مسخوط ومرضي .

        523 - ويجب من مساق ذلك رد أمر الخلق إلى خالقهم ، والانكفاف عن الأمر بالمعروف ، والانصراف عن إغاثة كل ملهوف .

        وبهذه الترهات يعطل طوائف من ناشئة الزمان ، واغتروا بالتخاوض والتفاوض بهذا الهذيان .

        فالأمور كلها موكولة إلى حكم الله ، وليست أعمال العباد موجبة ولا علة .

        ولكن الموفق لمدرك الرشاد ، ومسلك السداد ، من يقوم بما كلفه من الأسباب ، ثم يرى فوزه ونجاته بحكم رب الأرباب .

        524 - فإذا وضح أن قيام صدر الدهر ، وسيد العصر ، بمهمات الدين والدنيا ، وحاجات الورى - سبب أقامه الله مطمحا لأعين العالمين ، وشوقا للآملين ، فلا تبديل لما وضع ، ولا واضع لمن رفع فلنضرب عن هذه الفنون إضراب من لا يستبدل عن مدارك اليقين مسالك الظنون .

        [ ص: 369 ] اللهم يسر بجودك وكرمك منهج الصواب ، وجنبني غوائل التعمق والإطناب .

        وبعد :

        525 - فالذي يليق بهذا الموقف العلي ، والمنصب السني في أمر الحج ، ما أنا واصفه ، وموضحه وكاشفه ، فأقول : إن ارجحن رأي مولانا إلى توطئة الطرق إلى بيت الله المعظم ، وحماه المحرم ، ومال اعتزامه إلى تقريب المسالك وتمهيدها ، وتذليلها وتعبيدها ، ونفضها عن الساعين في الأرض بالفساد ، وقاطعي الطرق على العباد .

        وما أهون تحصيل هذا المراد ، عن من استمر تحت الانقياد لأمره كل متوج صعب ( 196 ) القياد ، كيف وقد أطافت بأكناف البرية خطة المملكة في الأغوار والأنجاد ، واستدارت على أطرافها من رقعة الملك القرى والبلاد .

        526 - أما الكوفة ، فإنها بنجدة الدولة مكنوفة ، وبرجال البأس محفوفة .

        وأما بلاد الشام ، فقد احتوى عليها أقوام منتفضون عن حواشي الجند المعقود ، مع [ الإقران ] لملك الإسلام ، والاستكانة والاستسلام .

        [ ص: 370 ] وأما الحرم ، فقد استمر فيه الوفاق واستتم .

        وعربان البرية من أضعف الخليقة والبرية ، ولا حاجة في استئصال شأفتهم واقتلاع كافتهم إلى صدمات مبيرة ، وكتائب هجامة مغيرة ، بل يكفيهم أن يقطع عنهم من أطراف البلاد الميرة ، وليست كفاية غوائلهم بالعسيرة .

        ولولا حذار الإطالة لبسطت في ذلك المقالة ، ومولانا أخبر بطرق الإيالة لا محالة ، وتمهيد هذه الأسباب هين على مستخدم من ذلك الجناب مستناب ، ولكن لكل أجل كتاب .

        وهذا قول من خبرهم دهرا ، وعاشرهم عصرا ، وعرف مداخلهم ومخارجهم ، ومسالكهم ومدارجهم .

        التالي السابق


        الخدمات العلمية