الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 194 ] 2 - ومن باب الأذان في الرجل يؤذن ويقيم غيره

حديث عبد الله بن زيد في الأذان - حجة من ذهب إلى من أذن فهو يقيم - طريق الجمع بين الحديثين .

قرأت على أبي بكر بن محمد بن ذاكر بن محمد المستملي ، أخبرنا الحسن بن أحمد القاري ، أخبرنا محمد بن أحمد الكاتب ، أخبرنا علي بن عمر بن أحمد ، حدثنا الحسين بن إسماعيل ، حدثنا أبو يحيى محمد بن عبد الرحيم ، حدثنا معلى بن منصور ، حدثنا عبد السلام بن حرب ، عن جده : أنه حين رأى الأذان أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بلالا فأذن ، وأمر عبد الله بن زيد فأقام .

ورواه حماد بن خالد ، عن محمد بن عمرو ، عن محمد بن عبد الله ، عن عمه عبد الله بن زيد ، قال : أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أشياء لم يصنع فيها شيئا ، قال : فأري عبد الله بن زيد الأذان في المنام ؛ فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره ، فقال : ألقه على بلال . فألقاه على بلال ، فأذن ، فقال عبد الله : أنا رأيته ، وأنا كنت أريده . قال : فأقم أنت .

[ ص: 195 ] هذا حديث حسن ، وفي إسناده مقال من حديث محمد بن عمرو ، وأخرجه أبو داود في كتابه ، عن عثمان بن أبي شيبة ، عن حماد بن خالد .

واتفق أهل العلم في الرجل يؤذن ويقيم غيره على أن ذلك جائز ، واختلفوا في الأولوية :

فذهب أكثرهم إلى أنه لا فرق ، وأن الأمر متسع ، وممن رأى ذلك : مالك ، وأكثر أهل الحجاز ، وأبو حنيفة ، وأكثر أهل الكوفة ، وأبو ثور .

وذهب بعضهم إلى أن الأولى أن من أذن فهو يقيم .

وقال سفيان الثوري : كان يقال : من أذن فهو يقيم . وروينا عن أبي محذورة أنه جاء وقد أذن إنسان ، فأذن ، وأقام .

وإلى هذا ذهب أحمد .

وقال الشافعي في رواية الربيع عنه : وإذا أذن الرجل أحببت أن يتولى الإقامة لشيء يروى فيه : أن من أذن فهو يقيم .

وكان من حجة من ذهب إلى القول الثاني ما أخبرنا به أبو المحاسن محمد بن علي الزاهد ، حدثنا زاهر بن طاهر ، أخبرنا أحمد بن الحسين ، أخبرنا محمد بن الحسين القطان ، أخبرنا عبد الله بن جعفر ، حدثنا يعقوب بن سفيان ، حدثنا أبو عبد الرحمن المقرئ ، حدثنا عبد الرحمن بن زياد بن أنعم ، عن زياد بن نعيم الحضرمي من أهل مصر ، قال : سمعت زياد بن الحارث الصدائي صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحدث ، قال : أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر الحديث ، ثم قال : فلما كان أذان الصبح أمرني فأذنت ، فجعلت أقول : أقيم يا رسول الله ؟ فنظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى ناحية المشرق إلى الفجر فيقول : [ ص: 196 ] لا . حتى إذا طلع الفجر نزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتبرز ثم انصرف إلي ، وقد تلاحق أصحابه ، فذكر الحديث في الوضوء ، قال : ثم قام نبي الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الصلاة ، فأراد بلال أن يقيم فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : إن أخا صداء هو أذن ، ومن أذن فهو يقيم الصلاة . قال الصدائي : فأقمت الصلاة .

هذا حديث حسن ، أخرجه أبو داود في كتابه ، عن عبد الله بن مسلمة ، عن عبد الله بن عمر بن غانم ، عن عبد الرحمن بن زياد ، وأخرجه الترمذي ، عن هناد بن السري ، عن عبدة ويعلى ، جميعا عن عبد الرحمن بن زياد .

قالوا : فهذا الحديث أقوم إسنادا من الأول كما ترى .

ثم حديث عبد الله بن زيد كان في أول ما شرع الأذان ، وذلك في السنة الأولى ، وحديث الصدائي كان بعده بلا شك ، والأخذ بآخر الأمرين أولى على ما قرر .

وطريق الإنصاف أن يقال : الأمر في هذا الباب على التوسع وادعاء النسخ ، مع إمكان الجمع بين الحديثين على خلاف الأصل ، إذ لا عبرة بمجرد التراخي على ما قرر في المقدمة ، ثم نقول في حديث عبد الله بن زيد : إنما فوض الأذان إلى بلال ؛ لأنه كان أندى صوتا من عبد الله على ما ذكر في الحديث ، والمقصود من الأذان الإعلام ، ومن شرطه الصوت ، وكلما كان الصوت أعلى كان أولى ، وأما زياد بن الحارث فكان جهوري الصوت ، ومن صلح للأذان كان للإقامة أصلح ، وهذا المعنى يؤكد قول من قال : من أذن فهو يقيم .

التالي السابق


الخدمات العلمية