الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
[ ص: 2 ] باب الكفالة بالنفس والوكالة بالخصومة قال - رحمه الله - وإن ادعى رجل قبل رجل دعوى وأخذ منه كفيلا بنفسه ووكيلا بالخصومة ضامنا لما ثبت عليه فهو جائز ; لأن مقصود صاحب الحق التوثق بحقه . وتمام التوثق يكون بهذا فإن المكفول بنفسه ربما لا يأتي بالكفيل ، ويخفي شخصه فيتعذر على الطالب إثبات حقه ولا يتوصل إلى حبس الكفيل ، وإن كان وكيلا في خصومته يمكن من إثبات حقه بالبينة ، وبعد الإثبات ليس له أن يطالب الوكيل بأداء المال وربما لا يظفر الوكيل بالأصيل فإذا كان ضامنا لما ذاب عليه توصل إلى استيفاء حقه منه فعرفنا أن تمام التوثق بها يحصل فلهذا جوزناه . وعلى قول الشافعي - رحمه الله - هذا الضمان لا يجوز ( وأصل المسألة ) أن الكفالة بالمال مضافا إلى سبب وجوبه يجوز عندنا نحو أن يقول : ما ذاب لك على فلان فهو علي أو ما بعث به فلانا فهو علي وعند الشافعي - رحمه الله - لا يجوز ; لأنه التزم المال بالعقد فلا يحتمل الإضافة كالالتزام بالشراء ; ولأن الإضافة إلى وقت في معنى التعليق بالشرط . والتزام المال بالكفالة لا يحتمل التعليق بالشرط حتى لو علق بدخول الدار وكلام زيد ; لم يصح . فكذلك إذا أضافه إلى وقت . توضيحه : أن عندكم لو أضاف الكفالة إلى موت المطلوب ; كان صحيحا ولو أضافها إلى موت غيره ; لم يصح .

ولا فرق بين الموتين فإن كل واحد منهما كائن غير موجود في الحال ثم جهالة المكفول عنه تمنع صحة الكفالة بهذه الصفة بأن يقول : ما بايعت به أحدا من الناس . فكذلك جهالة المكفول به تمنع صحته بالأولى ; لأن الملتزم بالعقد هو المكفول به . وحجتنا قوله تعالى { ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم } فهذا المنادي أضاف الالتزام بالكفالة إلى سبب وجوب المال وهو المجيء بصواع الملك وإنما نادى بأمر يوسف عليه السلام وما أخبر به الله تعالى عن شريعة من قبلنا : فهو ثابت في شريعتنا حتى يقوم دليل النسخ غير أن الشافعي - رحمه الله - يقول : هنا بيان العمالة لمن يأتي به وعندي من أبق عبده فخاطب جماعة وقال : من جاء به منكم فله عشرة كان هذا صحيحا ولكنا [ ص: 3 ] نقول : استدلالنا بزعامة المنادي بقوله { وأنا به زعيم } ولا حاجة هنا إلى معرفة طريق وجوب ذلك المال فإن العمالة تجب على من وقع له العمل .

فأما الوجوب على الكفيل فبسبب الكفالة إلا أنه يقول : لم يكن هذا كفالة على الحقيقة فإن المكفول له مجهول ، وجهالة المكفول له تمنع صحة الكفالة ، والكلام فيه من حيث المعنى إذ التزام المال بالكفالة نظير التزام المال بالإقرار من حيث إنه التزام لا يقابله إلزام على من يلتزم له وجهالة المقر به لا تمنع صحة الإقرار ، فكذلك فيما التزمه بالكفالة وجواز الكفالة في الأصل لحاجة الناس والحاجة ماسة إلى إضافة الكفالة إلى سبب وجوب المال ; ولهذا جوز العلماء - رحمهما الله - الكفالة بالدرك وهو مضاف إلى سبب الوجوب بالاستحقاق فبه يتبين أن مثل هذه الجهالة - لكونها لا تفضي إلى المنازعة - لا تمنع صحة الكفالة ولا يجوز أن تمنع صحتها لمعنى الخطر فإنه موجود في كل كفالة ; إذ لا يدري أن الطالب يطالب الكفيل أو الأصيل ، فأما الفرق بين الموتين فهو أن موت المطلوب يجوز أن يكون سببا لتوجه المطالبة بالمال عليه بأن يكون وارثه ; فلهذا تصح إضافة الكفالة إليه ، وكذلك التعليق بكلام زيد ودخول الدار فإنه ليس بسبب لوجوب المال بحال ، فتمحض ذلك تعليقا بالشرط ولا يكون التزاما . فأما هاهنا فإنه أضاف الالتزام إلى ما هو سبب لوجوب المال وهو المبايعة والذوب فيكون التزاما صحيحا فإن وافى به ودفعه إليه فهو بريء من ذلك ; لوجود الموافاة به كما التزمه ، وإن لم يفعل فللطالب أن يأخذه بالكفالة ، ويخاصمه في دعواه قبل المكفول به والكفيل ضامن له لتحقق الذوب بقضاء القاضي ، وقد كان ملتزما لما يذوب له عليه . والذوب عبارة عن تحقق الوجوب .

التالي السابق


الخدمات العلمية