الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 8610 ) مسألة : قال : ( وإذا كان له ثلاثة أعبد ، فأعتقهم في مرض موته ، أو دبرهم ، أو دبر أحدهم ، وأوصى بعتق الآخرين ، ولم يخرج من ثلثه إلا واحد ; لتساوي قيمتهم ، أقرع بينهم بسهم حرية وسهمي رق ، فمن وقع لهم سهم الحرية ، عتق دون صاحبيه ) وجملة ذلك أن العتق في مرض الموت ، والتدبير ، والوصية بالعتق ، يعتبر خروجه من الثلث ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجز من عتق الذي أعتق ستة مملوكين في مرضه ، إلا ثلثهم . ولأنه تبرع بمال ، أشبه الهبة ، فإن أعتق أكثر من الثلث ، لم يجز إلا الثلث .

                                                                                                                                            فإن أعتق عبيدا في مرضه ، واحدا بعد واحد ، بدئ بالأول فالأول ، حتى يستوفي الثلث . وإن وقع العتق دفعة واحدة ، ولم يخرجوا من الثلث ، أقرع بينهم ، فأخرج الثلث بالقرعة . ومسألة الخرقي فيما إذا وقع العتق دفعة واحدة ، ولم يكن له مال سواهم . وأما إن دبرهم ، استوى المقدم والمؤخر منهم ; لأن التدبير عتق معلق بشرط ، وهو الموت ، والشرط إذا وجد ثبت المشروط به في وقت واحد ، وكذلك الموصى بعتقه ، يستوي هو والتدبير ; لأن الجميع عتق بعد الموت ، فمتى أعتق ثلاثة أعبد متساوين في القيمة ، هم جميع ماله ، دفعة واحدة ، أو دبرهم ، أو وصى بعتقهم ، أو دبر بعضهم ووصى بعتق باقيهم ، ولم يجز الورثة أكثر من الثلث ، أقرع بينهم بسهم حرية وسهمي رق ، فمن خرج له سهم الحرية ، عتق ورق صاحباه . وبهذا قال عمر بن عبد العزيز ، وأبان بن عثمان ، ومالك ، والشافعي ، وإسحاق ، وداود ، وابن جرير .

                                                                                                                                            وقال أبو حنيفة : يعتق من كل واحد ثلثه ، ويستسعى في باقيه . وروي نحو هذا عن سعيد بن المسيب ، وشريح ، والشعبي ، والنخعي ، وقتادة ، وحماد لأنهم تساووا في سبب الاستحقاق ، فيتساوون في الاستحقاق ، كما لو كان يملك ثلثهم وحده ، وهو ثلث ماله ، أو كما لو وصى بكل واحد منهم لرجل . وأنكر أصحاب أبي حنيفة القرعة ، وقالوا : هي من القمار وحكم الجاهلية . ولعلهم يردون الخبر الوارد في هذه المسألة ; لمخالفته قياس الأصول . [ ص: 298 ]

                                                                                                                                            وذكر الحديث لحماد ، فقال : هذا قول الشيخ - يعني إبليس - فقال له محمد بن ذكوان : وضع القلم عن ثلاثة ; أحدهم المجنون حتى يفيق - يعني إنك مجنون - فقال له حماد : ما دعاك إلى هذا ؟ فقال له محمد : وأنت ، فما دعاك إلى هذا ؟ وهذا قليل في جواب حماد ، وكان حريا أن يستتاب عن هذا ، فإن تاب وإلا ضربت عنقه . ولنا ما روى عمران بن الحصين ، { أن رجلا من الأنصار أعتق ستة مملوكين في مرضه ، لا مال له غيرهم ، فجزأهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة أجزاء ، فأعتق اثنين ، وأرق أربعة } . وهذا نص في محل النزاع ، وحجة لنا في الأمرين المختلف فيهما ، وهما جمع الحرية واستعمال القرعة ، وهو حديث صحيح ثابت ، رواه مسلم ، وأبو داود ، وسائر أصحاب السنن . ورواه عن عمران بن الحصين الحسن ، وابن سيرين ، وأبو المهلب ، ثلاثة أئمة . ورواه الإمام أحمد ، عن إسحاق بن عيسى ، عن هشيم ، عن خالد الحذاء ، عن أبي قلابة ، عن أبي زيد الأنصاري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم . قال أحمد : أبو زيد الأنصاري رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم . وروي نحوه عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم . ولأنه حق في تفريقه ضرر ، فوجب جمعه بالقرعة ، كقسمة الإجبار إذا طلبها أحد الشريكين ، ونظيره من القسمة ما لو كانت دار بين اثنين ، لأحدهما ثلثها ، وللآخر ثلثاها ، وفيها ثلاثة مساكن متساوية ، لا ضرر في قسمتها ، فطلب أحدهما القسمة ، فإنه يجعل كل بيت سهما ، ويقرع بينهم بثلاثة أسهم ; لصاحب الثلث سهم ، وللآخر سهمان . وقولهم : إن الخبر يخالف قياس الأصول . ونمنع ذلك ، بل هو موافق له ; لما ذكرناه . وقياسهم فاسد ; لأنه إذا كان ملكه ثلثهم وحده ، لم يمكن جمع نصيبه ، والوصية لا ضرر في تفريقها ، بخلاف مسألتنا .

                                                                                                                                            وإن سلمنا مخالفته قياس الأصول ، فقول رسول الله صلى الله عليه وسلم واجب الاتباع ، سواء وافق القياس أو خالفه ; لأنه قول المعصوم ، الذي جعل الله تعالى قوله حجة على الخلق أجمعين ، وأمرنا باتباعه وطاعته ، وحذر العقاب في مخالفة أمره ، وجعل الفوز في طاعته ، والضلال في معصيته ، وتطرق الخطأ إلى القائس في قياسه أغلب من تطرق الخطأ إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والأئمة بعدهم في روايتهم ، على أنهم قد خالفوا قياس الأصول بأحاديث ضعيفة ، فأوجبوا الوضوء بالنبيذ في السفر دون الحضر ، ونقضوا الوضوء بالقهقهة في الصلاة دون خارجها ; وقولهم في مسألتنا في مخالفة القياس والأصول ، أشد وأعظم ، والضرر في مذهبهم أعظم ; وذلك لأن الإجماع منعقد على أن صاحب الثلث في الوصية وما في معناها ، لا يحصل له شيء حتى يحصل للورثة مثلاه ، وفي مسألتنا يعتقون الثلث ، ويستسعون العبد في الثلثين ، فلا يحصل للورثة شيء في الحال أصلا ، ويحيلونهم على السعاية ، وربما لا يحصل منها شيء أصلا ، وربما لا يحصل منها في الشهر إلا درهم أو درهمان ، فيكون هذا في حكم من لم يحصل له شيء ، وفيه ضرر على العبيد ; لأنهم يجبرونهم على الكسب والسعاية ، عن غير اختيار منهم ، وربما كان المجبر على ذلك جارية ، فيحملها ذلك على البغاء ، أو عبدا ، فيسرق أو يقطع الطريق ، وفيه ضرر على الميت ، حيث أفضوا بوصيته إلى الظلم والإضرار ، وتحقيق ما يوجب له العقاب من ربه ، والدعاء عليه من عبيده وورثته .

                                                                                                                                            وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي ذكرناه في حق الذي فعل هذا ، قال : { لو شهدته لم يدفن في مقابر المسلمين } [ ص: 299 ] قال ابن عبد البر في قول الكوفيين ضروب من الخطأ والاضطراب ، مع مخالفة السنة الثابتة . وأشار إلى ما ذكرناه . وأما إنكارهم للقرعة ، فقد جاءت في الكتاب والسنة والإجماع ، قال الله تعالى : { وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم } وقال تعالى : { فساهم فكان من المدحضين } .

                                                                                                                                            وأما السنة ; فقال أحمد : في القرعة خمس سنن ; أقرع بين نسائه . وأقرع في ستة مملوكين . وقال لرجلين : " استهما " وقال : { مثل القائم على حدود الله والمداهن فيها ، كمثل قوم استهموا على سفينة . } وقال { لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ، لاستهموا عليه } . وفي حديث الزبير ، أن صفية جاءت بثوبين ; ليكفن فيها حمزة رضي الله عنه فوجدنا إلى جنبه قتيلا ، فقلنا : لحمزة ثوب ، وللأنصاري ثوب . فوجدنا أحد الثوبين أوسع من الآخر ، فأقرعنا عليهما ، ثم كفنا كل واحد في الثوب الذي صار له ، وتشاح الناس يوم القادسية في الأذان ، فأقرع بينهم سعد وأجمع العلماء على استعمالها في القسمة ، ولا أعلم بينهم خلافا في أن الرجل يقرع بين نسائه إذا أراد السفر بإحداهن ، وإذا أراد البداية بالقسمة بينهن ، وبين الأولياء إذا تساووا وتشاحوا في من يتولى التزويج أو من يتولى استيفاء القصاص ، وأشباه هذا .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية