الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ .

[ ص: 166 ] انتقال من الاستدلال على إثبات ما يليق بالله من الصفات ، إلى إثبات صدق رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - وإلى جعل الله حكما بينه وبين مكذبيه ، فالجملة استئناف ابتدائي ، ومناسبة ظاهرة .

روى الواحدي في أسباب النزول عن الكلبي : أن رؤساء مكة قالوا : يا محمد ما نرى أحدا مصدقك بما تقول ، وقد سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أن ليس عندهم ذكرك ولا صفتك فأرنا من يشهد أنك رسول الله . فنزلت هذه الآية .

وقد ابتدئت المحاورة بأسلوب إلقاء استفهام مستعمل في التقرير على نحو ما بينته عند قوله تعالى : قل لمن ما في السماوات والأرض ومثل هذا الأسلوب لإعداد السامعين لتلقي ما يرد بعد الاستفهام .

و أي اسم استفهام يطلب به بيان أحد المشتركات فيما أضيف إليه هذا الاستفهام ، والمضاف إليه هنا هو ( شيء ) المفسر بأنه من نوع الشهادة .

و ( شيء ) اسم عام من الأجناس العالية ذات العموم الكثير ، قيل : هو الموجود ، وقيل : هو ما يعلم ويصح وجوده . والأظهر في تعريفه أنه الأمر الذي يعلم . ويجري عليه الإخبار سواء كان موجودا أو صفة موجود أو معنى يتعقل ويتحاور فيه ، ومنه قوله تعالى : فقال الكافرون هذا شيء عجيب أئذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد .

وقد تقدم الكلام على مواقع حسن استعمال كلمة ( شيء ) ومواقع ضعفها عند قوله تعالى : ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع في سورة البقرة .

و ( أكبر ) هنا بمعنى أقوى وأعدل في جنس الشهادات ، وهو من إطلاق ما مدلوله عظم الذات على عظم المعنى ، كقوله تعالى : ورضوان من الله أكبر وقوله : قل قتال فيه كبير . وقد تقدم في سورة البقرة .

وقوة الشهادة بقوة اطمئنان النفس إليها وتصديق مضمونها .

وقوله ( شهادة ) تمييز لنسبة الأكبرية إلى الشيء فصار ماصدق الشيء بهذا التمييز هو الشهادة . فالمعنى : أية شهادة هي أصدق الشهادات ، فالمستفهم عنه بـ ( أي ) فرد من أفراد الشهادات يطلب علم أنه أصدق أفراد جنسه .

[ ص: 167 ] والشهادة تقدم بيانها عند قوله تعالى شهادة بينكم في سورة المائدة .

ولما كانت شهادة الله على صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - غير معلومة للمخاطبين المكذبين بأنه رسول الله ، صارت شهادة الله عليهم في معنى القسم على نحو قوله تعالى : ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين أي أن تشهد الله على كذب الزوج ، أي أن تحلف على ذلك باسم الله ، فإن لفظ أشهد الله من صيغ القسم إلا أنه إن لم يكن معه معنى الإشهاد يكون مجازا مرسلا ، وإن كان معه معنى الإشهاد كما هنا فهو كناية عن القسم مراد منه معنى إشهاد الله عليهم ، وبذلك يظهر موقع قوله : الله شهيد بيني وبينكم ، أي أشهده عليكم . وقريب منه ما حكاه الله عن هود قال إني أشهد الله .

وقوله : قل الله شهيد بيني وبينكم جواب للسؤال ، ولذلك فصلت جملته المصدرة بـ قل . وهذا جواب أمر به المأمور بالسؤال على معنى أن يسأل ثم يبادر هو بالجواب لكون المراد بالسؤال التقرير ، وكون الجواب مما لا يسع المقرر إنكاره ، على نحو ما بيناه في قوله : قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله .

ووقع قوله : الله شهيد بيني وبينكم جوابا على لسانهم لأنه مرتب على السؤال وهو المقصود منه فالتقدير : قل شهادة الله أكبر شهادة ، فالله شهيد بيني وبينكم ، فحذف المرتب عليه لدلالة المرتب إيجازا كما هو مقتضى جزالة أسلوب الإلجاء والجدل . والمعنى : أني أشهد الله الذي شهادته أعظم شهادة أنني أبلغتكم أنه لا يرضى بأن تشركوا به وأنذرتكم .

وفي هذه الآية ما يقتضي صحة إطلاق اسم ( شيء ) على الله تعالى لأن قوله الله شهيد وقع جوابا عن قوله أي شيء فاقتضى إطلاق اسم ( شيء ) خبرا عن الله تعالى وإن لم يدل صريحا . وعليه فلو أطلقه المؤمن على الله تعالى لما كان في إطلاقه تجاوز للأدب ولا إثم . وهذا قول الأشعرية خلافا لجهم بن صفوان وأصحابه .

ومعنى شهيد بيني وبينكم أنه لما لم تنفعهم الآيات والنذر فيرجعوا عن التكذيب والمكابرة لم يبق إلا أن يكلهم إلى حساب الله تعالى . والمقصود : إنذارهم بعذاب الله في [ ص: 168 ] الدنيا والآخرة . ووجه ذكر بيني وبينكم أن الله شهيد له ، كما هو مقتضى السياق . فمعنى البين أن الله شهيد للرسول - صلى الله عليه وسلم - بالصدق لرد إنكارهم رسالته ، كما هو شأن الشاهد في الخصومات .

وقوله : وأوحي إلي هذا القرآن عطف على جملة الله شهيد بيني وبينكم ، وهو الأهم فيما أقسم عليه من إثبات الرسالة . وينطوي في ذلك جميع ما أبلغهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - وما أقامه من الدلائل . فعطف وأوحي إلي هذا القرآن من عطف الخاص على العام ، وحذف فاعل الوحي وبني فعله للمجهول للعلم بالفاعل الذي أوحاه إليه وهو الله تعالى .

والإشارة بـ هذا القرآن إلى ما هو في ذهن المتكلم والسامع . وعطف البيان بعد اسم الإشارة بين المقصود بالإشارة .

واقتصر على جعل علة نزول القرآن للنذارة دون ذكر البشارة لأن المخاطبين في حال مكابرتهم التي هي مقام الكلام لا يناسبهم إلا الإنذار ، فغاية القرآن بالنسبة إلى حالهم هي الإنذار ، ولذلك قال لأنذركم به مصرحا بضمير المخاطبين . ولم يقل : لأنذر به ، وهم المقصود ابتداء من هذا الخطاب وإن كان المعطوف على ضميرهم ينذر ويبشر . على أن لام العلة لا تؤذن بانحصار العلة في مدخولها إذ قد تكون للفعل المعدى بها علل كثيرة .

ومن بلغ عطف على ضمير المخاطبين ، أي ولأنذر به من بلغه القرآن وسمعه ولو لم أشافهه بالدعوة ، فحذف ضمير النصب الرابط للصلة لأن حذفه كثير حسن ، كما قال أبو علي الفارسي .

وعموم من وصلتها يشمل كل من يبلغه القرآن في جميع العصور .

التالي السابق


الخدمات العلمية