الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض وهو يطعم ولا يطعم قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم ولا تكونن من المشركين قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه وذلك الفوز المبين وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح الظالمون ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها حتى إذا جاءوك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين وهم ينهون عنه وينأون عنه وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين ولو ترى إذ وقفوا على ربهم قال أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون ) . فطر : خلق وابتدأ من غير مثال . وعن ابن عباس : ما كنت أعرف معنى ( فطر ) ، حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر ، فقال أحدهما : أنا فطرتها ; أي اخترعتها وأنشأتها ، وفطر أيضا شق يقال فطر ناب البعير ومنه هل ترى من فطور ؟ وقوله : يتفطرن منه . كشف الضر : أزاله ، وكشفت عن ساقيها; أزالت ما يسترهما . القهر : الغلبة والحمل على الشيء من غير اختيار . الوقر : الثقل في السمع ، يقال : وقرت أذنه ، بفتح القاف وكسرها ، وسمع أذن موقورة ، فالفعل على هذا وقرت . والوقر بفتح الواو وكسرها . أساطير : جمع إسطارة ، وهي الترهات ، قاله أبو عبيدة . وقيل : أسطورة كأضحوكة . وقيل : واحده أسطور . وقيل : إسطير وإسطيرة . وقيل : جمع لا واحد له ، مثل عباديد . وقيل : جمع الجمع ، يقال سطر وسطر ، فمن قال : سطر ، جمعه في القليل على أسطر ، وفي الكثير على سطور ، ومن قال : سطر ، جمعه على أسطار ، ثم جمع أسطارا على أساطير ، قاله يعقوب . وقيل : هو جمع جمع الجمع يقال : سطر ، وأسطر ، ثم أسطار ، ثم أساطير ، ذكر ذلك عن الزجاج . وليس أسطار جمع أسطر ، بل هما جمعا قلة لسطر . قال ابن عطية : وقيل : هو اسم جمع لا واحد له من لفظه ، [ ص: 85 ] كعباديد ، وشماطيط انتهى . وهذا لا تسميه النحاة اسم جمع; لأنه على وزن الجموع ، بل يسمونه جمعا ، وإن لم يلفظ له بواحد . نأى نأيا بعد وتعديته لمفعول منصوب بالهمزة ، لا بالتضعيف ، وكذا ما كان مثله مما عينه همزة . وقف على كذا : ( حبس ) ، ومصدر المتعدي ( وقف ) ، ومصدر اللازم ، ( وقوف ) ، فرق بينهما بالمصدر . البغت والبغتة : الفجأة ، يقال : بغته يبغته; أي فجأه يفجأه ، وهي مجيء الشيء سرعة من غير جعل بالك إليه ، وغير علمك بوقت مجيئه . فرط : قصر مع القدرة على ترك التقصير . وقال أبو عبيد : فرط : ضيع . وقال ابن بحر : فرط : سبق ، والفارط السابق ، وفرط خلى السبق لغيره . الأوزار : الآثام والخطايا ، وأصله الثقل من الحمل ، وزرته حملته ، وأوزار الحرب أثقالها من السلاح ، ومنه الوزير; لأنه يحمل عن السلطان أثقال ما يسند إليه من تدبير ملكه . اللهو : صرف النفس عن الجد إلى الهزل ، يقال منه لها يلهو ، ولهي عن كذا ، صرف نفسه عنه ، والمادة واحدة ، انقلبت الواو ياء; لكسر ما قبلها ، نحو شقي ورضي . قال المهدوي : الذي معناه الصرف ، لامه ياء ، بدليل قولهم لهيان ، ولام الأول واو انتهى . وهذا ليس بشيء; لأن الواو في التثنية انقلبت ياء ، وليس أصلها الياء ، ألا ترى إلى تثنية شج شجيان وهو من ذوات الواو ، من الشجو ؟

( قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض ) لما تقدم أنه تعالى اخترع السماوات والأرض ، وأنه مالك لما تضمنه المكان والزمان ، أمر تعالى نبيه أن يقول لهم ذلك على سبيل التوبيخ لهم; أي من هذه صفاته هو الذي يتخذ وليا وناصرا ومعينا ، لا الآلهة التي لكم ، إذ هي لا تنفع ولا تضر; لأنها بين جماد أو حيوان مقهور ، ودخلت همزة الاستفهام على الاسم دون الفعل; لأن الإنكار في اتخاذ غير الله وليا ، لا في اتخاذ الولي ، كقولك لمن ضرب زيدا ، وهو ممن لا يستحق الضرب ، بل يستحق الإكرام ، أزيدا ضربت ، تنكر عليه أن يكون مثل هذا يضرب ، ونحوه ( أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون ) ، و ( آلله أذن لكم ) . وقال الطبري : وغيره أمر أن يقول هذه المقالة للكفرة الذين دعوه إلى عبادة أوثانهم ، فتجيء الآية على هذا جوابا لكلامهم انتهى . وهذا يحتاج إلى سند في أن سبب نزول هذه الآية ، هو ما ذكره وانتصاب غير على أنها مفعول أول لـ ( اتخذ ) . وقرأ الجمهور ( فاطر ) ، فوجهه ابن عطية والزمخشري ، ونقلها الحوفي على أنه نعت لله ، وخرجه أبو البقاء على أنه بدل ، وكأنه رأى أن الفصل بين المبدل منه والبدل ، أسهل من الفصل بين المنعوت والنعت ، إذ البدل على المشهور ، هو على تكرار العامل . وقرأ ابن أبي عبلة ، برفع الراء ، على إضمار ( هو ) . قال ابن عطية : أو على الابتداء انتهى . ويحتاج إلى إضمار خبر ، ولا دليل على حذفه . وقرئ شاذا ، بنصب الراء ، وخرجه أبو البقاء على أنه صفة لولي ، على إرادة التنوين ، أو بدل منه ، أو حال ، والمعنى على هذا أأجعل ( فاطر السماوات والأرض ) غير الله ؟ انتهى . والأحسن نصبه على المدح . وقرأ الزهري ( فطر ) ، جعله فعلا ماضيا .

( وهو يطعم ولا يطعم ) أي يرزق ، ولا يرزق ، كقوله : ( ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون ) والمعنى أن المنافع كلها من عند الله . وخص الإطعام من بين أنواع الانتفاعات ، لمس الحاجة إليه ، كما خص الربا بالأكل ، وإن كان المقصود الانتفاع بالربا . وقرأ مجاهد وابن جبير والأعمش وأبو حيوة وعمرو بن عبيد وأبو عمرو ، وفي رواية عنه ( ولا [ ص: 86 ] يطعم ) بفتح الياء ، والمعنى أنه تعالى منزه عن الأكل ، ولا يشبه المخلوقين . وقرأ يمان العماني وابن أبي عبلة ( ولا يطعم ) ، بضم الياء وكسر العين مثل الأول ، فالضمير في ( وهو يطعم ) عائد على الله ، وفي ( ولا يطعم ) عائد على الولي . وروى ابن المأمون عن يعقوب ( وهو يطعم ولا يطعم ) على بناء الأول للمفعول ، والثاني للفاعل ، والضمير لغير الله . وقرأ الأشهب : ( وهو يطعم ولا يطعم ) على بنائهما للفاعل ، وفسر بأن معناه ، وهو يطعم ، ولا يستطعم ، وحكى الأزهري أطعمت بمعنى استطعمت . قال الزمخشري : ويجوز أن يكون المعنى; وهو يطعم تارة ، ولا يطعم أخرى ، على حسب المصالح ، كقولك : هو يعطي ، ويمنع ، ويبسط ، ويقدر ، ويغني ، ويفقر . وفي قراءة من قرأ باختلاف الفعلين تجنيس التشكيل ، وهو أن يكون الشكل فرقا بين الكلمتين ، وسماه أسامة بن منقذ في بديعته; تجنيس التحريف ، وهو بتجنيس التشكيل أولى .

( قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم ) . قال الزمخشري : لأن النبي سابق أمته في الإسلام ، كقوله : ( وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين ) ، وكقول موسى : ( سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين ) . قال ابن عطية : المعنى; أول من أسلم من هذه الأمة ، وبهذه الشريعة ، ولا يتضمن من الكلام إلا ذلك ، وهذا الذي قاله الزمخشري وابن عطية ، هو قول الحسن . قال الحسن : معناه أول من أسلم من أمتي . قيل : وفي هذا القول نظر; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصدر منه امتناع عن الحق ، وعدم انقياد إليه ، وإنما هذا على طريق التعريض على الإسلام ، كما يأمر الملك رعيته بأمر ، ثم يتبعه بقوله : أنا أول من يفعل ذلك; ليحملهم على فعل ذلك . وقيل : أراد الأولية في الرتبة ، والفضيلة ، كما جاء نحن الآخرون الأولون ، وفي رواية السابقون . وقيل : ( أسلم ) أخلص ، ولم يعدل بالله شيئا . وقيل : استسلم . وقيل : أراد دخوله في دين إبراهيم ، عليه السلام ، كقوله : ( ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل ) . وقيل : أول من أسلم يوم الميثاق ، فيكون سابقا على الخلق كلهم ، كما قال : ( وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح ) .

( ولا تكونن من المشركين ) أي ، وقيل : لي ، والمعنى أنه أمر بالإسلام ، ونهي عن الشرك ، هكذا خرجه الزمخشري وابن عطية ، على إضمار وقيل : لي; لأنه لا ينتظم عطفه على لفظ ( إني أمرت أن أكون أول من أسلم ) فيكون مندرجا تحت لفظ ( قل ) ، إذ لو كان كذلك ، لكان التركيب ، ولا أكون من المشركين . وقيل : هو معطوف على معمول ( قل ) حملا على المعنى ، والمعنى ( قل إني ) قيل : لي كن ( أول من أسلم ولا تكونن من المشركين ) ، فهما جميعا محمولان على القول ، لكن أتى الأول بغير لفظ القول ، وفيه معناه ، فحمل الثاني على المعنى . وقيل : هو معطوف على ( قل ) أمر بأن يقول كذا ، ونهي عن كذا . وقيل : هو نهي عن موالاة المشركين . وقيل : الخطاب له لفظا ، والمراد أمته ، وهذا هو الظاهر; لقوله : ( لئن أشركت ليحبطن عملك ) ، والعصمة تنافي إمكان الشرك .

( قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم ) . الظاهر أن الخوف هنا على بابه ، وهو توقع المكروه . وقال ابن عباس : معنى ( أخاف ) أعلم . و ( عصيت ) عامة في أنواع المعاصي ، ولكنها هنا إنما تشير إلى الشرك الذي نهي عنه ، قاله ابن عطية . والخوف ليس بحاصل لعصمته ، بل هو معلق بشرط ، هو ممتنع في حقه ، وجوابه محذوف ، ولذلك جاء بصيغة الماضي ، فقيل : هو شرط معترض ، لا موضع له من الإعراب ، كالاعتراض بالقسم . وقيل : هو في موضع نصب على الحال ، كأنه قيل : إني أخاف عاصيا ربي . وقال أبو عبد الله الرازي : مثال الآية ، إن كانت الخمسة زوجا ، كانت منقسمة متساويتين; يعني أنه تعليق على مستحيل . واليوم العظيم هو يوم القيامة .

( من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه ) . قرأ حمزة وأبو بكر والكسائي ( من يصرف ) مبنيا للفاعل ، فـ ( من ) مفعول مقدم ، والضمير في ( يصرف ) عائد على الله ، ويؤيده قراءة أبي ( من يصرف الله ) ، وفي ( عنه ) عائد على العذاب ، والضمير المستكن [ ص: 87 ] في ( رحمه ) عائد على الرب; أي أي شخص يصرف الله عنه العذاب ، فقد رحمه الرحمة العظمى ، وهي النجاة من العذاب ، وإذا نجي من العذاب ، دخل الجنة . ويجوز أن يعرب ( من ) مبتدأ . والضمير في ( عنه ) عائد عليه ، ومفعول ( يصرف ) محذوف اختصارا ، إذ قد تقدم في الآية قبل التقدير; أي شخص يصرف الله العذاب عنه ، فقد رحمه ، وعلى هذا يجوز أن يكون من باب الاشتغال ، فيكون ( من ) منصوبا بإضمار فعل ، يفسره معنى ( يصرف ) ، ويجوز على إعراب ( من ) مبتدأ ، أن يكون المفعول مذكورا ، وهو ( يومئذ ) ، على حذف أي هول يومئذ ، فينتصب ( يومئذ ) انتصاب المفعول به . وقرأ باقي السبعة ( من يصرف ) مبنيا للمفعول ، ومعلوم أن الصارف هو الله تعالى ، فحذف للعلم به ، أو للإيجاز ، إذ قد تقدم ذكر الرب ، ويجوز في هذا الوجه أن يكون الضمير في ( يصرف ) عائدا على ( من ) ، وفي ( عنه ) عائدا على العذاب; أي أي شخص يصرف عن العذاب ، ويجوز أن يكون الضمير عائدا على ( من ) ، ومفعول ( يصرف ) ( يومئذ ) ، وهو مبني لإضافته إلى ( إذ ) ، فهو في موضع رفع بـ ( يصرف ) . والتنوين في ( يومئذ ) تنوين عوض من جملة محذوفة ، يتضمنها الكلام السابق ، التقدير يوم إذ يكون الجزاء ، إذ لم يتقدم جملة مصرح بها ، يكون التنوين عوضا عنها ، وتكلم المعربون في الترجيح بين القراءتين على عادتهم ، فاختار أبو عبيد وأبو حاتم . وأشار أبو علي إلى تحسينه قراءة ( يصرف ) مبنيا للفاعل; لتناسب ( فقد رحمه ) ، ولم يأت ( فقد رحم ) ، ويؤيده قراءة عبد الله ، وأبي ( من يصرف الله ) . ورجح الطبري قراءة ( يصرف ) مبنيا للمفعول ، قال : لأنها أقل إضمارا . قال ابن عطية : وأما مكي بن أبي طالب ، فتخبط في كتاب الهداية في ترجيح القراءة بفتح الياء ، ومثل في احتجاجه بأمثلة فاسدة . قال ابن عطية : وهذا توجيه لفظي ، يشير إلى الترجيح تعلقه خفيف ، وأما المعنى; فالقراءتان واحد انتهى . وقد تقدم لنا غير مرة ، أنا لا نرجح بين القراءتين المتواترتين . وحكى أبو عمرو الزاهد في كتاب اليواقيت; أن أبا العباس أحمد بن يحيى ثعلبا ، كان لا يرى الترجيح بين القراءات السبع . وقال : قال ثعلب من كلام نفسه ، إذا اختلف الإعراب في القرآن عن السبعة ، لم أفضل إعرابا على إعراب في القرآن ، فإذا خرجت إلى الكلام ، كلام الناس ، فضلت الأقوى ، ونعم السلف لنا أحمد بن يحيى ، كان عالما بالنحو واللغة ، متدينا ثقة .

( وذلك الفوز المبين ) الإشارة بـ ( ذلك ) إلى المصدر المفهوم ( من يصرف ) أي وذلك الصرف هو الظفر ، والنجاة من الهلكة . و ( المبين ) البين في نفسه ، أو المبين غيره .

التالي السابق


الخدمات العلمية