الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( وإن أراد الاقتصار على الحجر لزمه أمران : ( أحدهما ) أن يزيل العين حتى لا يبقى إلا أثر لاصق لا يزيله إلا الماء ( والثاني ) أن يستوفي ثلاث مسحات لما روي { أن رجلا قال لسلمان رضي الله عنه ( أنه علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة ؟ قال : أجل نهانا أن نجتزئ بأقل من ثلاثة أحجار } ) فإن استنجى بحجر له ثلاثة أحرف أجزأه لأن القصد عدد المسحات وقد وجد ذلك ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) حديث سلمان رواه مسلم في صحيحه ووقع في المهذب " نهانا أن نجتزئ " والذي في مسلم نستنجي بدل " نجتزئ " وفي رواية لمسلم قال : " { ولا يستنجي أحدكم بدون ثلاثة أحجار } " وقوله الخراءة - هي بكسر الخاء وبالمد . قال الخطابي : هي أدب التخلي والقعود عند الحاجة وسلمان الراوي هو أبو عبد الله سلمان الفارسي الأصبهاني ، من فضلاء الصحابة وفقهائهم وزهادهم وعبادهم ومناقبه أكثر من أن تحصر وهو مولى النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 119 ] توفي بالمدائن سنة ست وثلاثين ، وقيل سبع ، وعمر عمرا طويلا جدا ، واتفقوا على أنه عاش مائتين وخمسين سنة . واختلفوا في الزيادة عليها فقيل ثلثمائة وخمسين . وقيل غير ذلك والله أعلم .

                                      ( وأما حكم المسألة ) فمن اقتصر على الحجر لزمه أمران : أحدهما : أن يزيل العين حتى لا يبقى إلا أثر لاصق لا يزيله إلا الماء ، هكذا نص عليه الشافعي في الأم ومختصر المزني بهذا اللفظ ، وكذا قاله الأصحاب في كل الطرق إلا الصيمري وصاحبه صاحب الحاوي فقال : إذا بقي ما لا يزول بالحجر ويزول بصغار الخزف والخرق ففيه وجهان . أحدهما : وهو ظاهر مذهب الشافعي . وقول أكثر الأصحاب تجب إزالته لأنها ممكنة بغير الماء . والثاني : وهو قول بعض المتقدمين لا يجب لأن الواجب الإزالة بالأحجار وقد أزال ما يزول بالأحجار ، ورجح الروياني هذا الثاني وهو الصواب ، لأن الشرع لم يكلفه غير الأحجار ، وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة المصرحة بإجزاء الأحجار .

                                      ( الثاني ) أنه يلزمه ثلاث مسحات وإن حصل الإنقاء بمسحة واحدة ، نص عليه الشافعي في الأم ، واتفق عليه جماهير الأصحاب في كل الطرق .

                                      وحكى الحناطي - بالحاء المهملة والنون - وصاحب البيان والرافعي وجها أنه إذا حصل الإنقاء بحجر كفاه وهذا شاذ ضعيف ، والصواب وجوب ثلاث مسحات مطلقا ، ثم هو مخير بين المسح بثلاثة أحجار أو بحجر له ثلاثة أحرف ، هكذا نص عليه الشافعي في الأم وغيره ، واتفق عليه الأصحاب وفرقوا بينه وبين من رمى الجمار في الحج ، بحجر له ثلاثة أحرف فإنه لا يحسب له إلا حجر واحد لأن المقصود هناك عدد الرمي ، والمقصود هنا عدد المسحات . قال الشافعي والأصحاب : والمسح بثلاثة أحجار أفضل من أحرف حجر ، للحديث " { وليستنج بثلاثة أحجار } " . [ ص: 120 ] وقال المحاملي وغيره : ولو بال وتغوط فالمستحب أن يمسح بستة أحجار فإن مسحهما بحجر له ستة أحرف ست مسحات أجزأه لحصول المسحات . قال ابن الصباغ وغيره : وكذا الخرقة الغليظة التي إذا مسح بأحد وجهيها لا يصل البلل إلى الجانب الآخر يجوز أن يمسح بوجهيها ، ويحسب مسحتين . وحكى الدارمي في الاستذكار عن ابن جابر أنه لا يجزئه حجر له ثلاثة أحرف وأظنه أراد بابن جابر : إبراهيم بن جابر من أصحابنا ، وحينئذ يكون وجها شاذا في المذهب وهو رواية عن أحمد بن حنبل واختاره ابن المنذر للحديث . قال أصحابنا : وإذا حصل الإنقاء بثلاثة أحجار بلا زيادة ، فإن لم يحصل بثلاثة وجب رابع . فإن حصل به استحب خامس ولا يجب ، فإن لم يحصل وجب خامس . فإن حصل به فلا زيادة وإلا وجب سادس . فإن حصل به استحب سابع ولا يجب وإلا وجب ، وهكذا أبدا متى حصل بثلاثة فما فوقها لم تجب زيادة . وأما الاستحباب فإن كان حصول الإنقاء بوتر لم يستحب الزيادة وإلا استحب الإيتار لقوله صلى الله عليه وسلم " { من استجمر فليوتر } " رواه البخاري ومسلم من رواية أبي هريرة ، وحكى صاحب البيان وجها أن الإيتار بخامس واجب لعموم الأمر بالإيتار ، وهذا الوجه شاذ ، فإن الأمر بالإيتار بعد الثلاث للاستحباب والله أعلم .

                                      ( فرع ) في مذاهب العلماء في عدد الأحجار ، قد ذكرنا أن مذهبنا وجوب ثلاث مسحات ، وإن حصل الإنقاء بدونها ، وبه قال أحمد وإسحاق وأبو ثور ، وقال مالك وداود : الواجب الإنقاء ، فإن حصل بحجر أجزأه وهو وجه لنا كما سبق ، وحكاه العبدري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وبه قال أبو حنيفة حيث أوجب الاستنجاء . واحتجوا بحديث أبي هريرة السابق " { من استجمر فليوتر من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج } " قالوا : ولأن المقصود الإنقاء لأنه لو استنجى بالماء لم يشترط عدد فكذا الحجر . [ ص: 121 ] واحتج أصحابنا بحديث سلمان . وهو صريح في وجوب الثلاث ، وبحديث أبي هريرة : " { وليستنج بثلاثة أحجار } " وهما صحيحان ، سبق بيانهما ، وبحديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " { إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليذهب معه بثلاثة أحجار يستطيب بهن ، فإنها تجزئ عنه } " وهو صحيح - سبق بيانه في مسألة وجوب الاستنجاء . وبحديث أبي هريرة " { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بثلاثة أحجار وينهى عن الروث والرمة } " رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه بأسانيد صحيحة ( الرمة ) بكسر الراء : العظم البالي - وبحديث خزيمة { سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الاستطابة فقال : بثلاثة أحجار } " رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه والبيهقي ولم يضعفه أبو داود ولا غيره .

                                      وبحديث ابن مسعود " { أتى النبي صلى الله عليه وسلم الغائط ، فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار ، فوجدت حجرين والتمست الثالث فلم أجد ، فأخذت روثة فأتيته بها ، فأخذ الحجرين وألقى الروثة وقال إنها ركس } " رواه البخاري هكذا ، ورواه أحمد والدارقطني والبيهقي ، في بعض رواياته زيادة " فألقى الروثة وقال ائتني بحجر ، يعني ثالثا " وفي بعضها " ائتني بغيرها " وبحديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " { من استجمر فليوتر } " رواه مسلم ، وفي رواية لأحمد والبيهقي : " { وإذا استجمر أحدكم فليستجمر ثلاثا } " قال البيهقي : هذه الرواية تبين أن المراد بالإيتار في الرواية الأولى ما زاد على الواحد .

                                      واحتجوا من القياس بأشياء كثيرة ، منها قياس القاضيين أبي الطيب وحسين في تعليقيهما : عبادة تتعلق بالأحجار ، يستوي فيها الثيب والأبكار ، فكان للعدد فيها اعتبار ، قياسا على رمي الجمار . قال أبو الطيب : قولنا يستوي فيها الثيب والأبكار احتراز من الرجم ، ولا حاجة إلى الأقيسة مع هذه الأحاديث الصحيحة ، قال الخطابي في حديث سلمان : " { أمرنا أن نستنجي بثلاثة أحجار } " . [ ص: 122 ] في هذا البيان الواضح أن الاقتصار على أقل من ثلاثة أحجار لا يجوز ; وإن حصل الإنقاء بدونها . ولو كفى الإنقاء لم يكن لاشتراط العدد معنى ، فإنا نعلم أن الإنقاء قد يحصل بواحد ، وليس هذا كالماء إذا أنقى كفى ، لأنه يزيل العين والأثر ، فدلالته قطعية ، فلم يحتج إلى الاستظهار بالعدد . وأما الحجر فلا يزيل الأثر ، وإنما يفيد الطهارة ظاهرا لا قطعا ، فاشترط فيه العدد كالعدة بالأقراء ، لما كانت دلالتها ظنا اشترط فيها العدد ، وإن كان قد تحصل براءة الرحم بقرء . ولهذا اكتفي بقرء في استبراء الأمة ، ولو كانت العدة بالولادة لم يشترط العدد ، لأن دلالتها قطعية . هذا مختصر كلام الخطابي . فإن قيل : التقييد بثلاثة أحجار ، إنما كان لأن الإنقاء لا يحصل بدونها غالبا ، فخرج مخرج الغالب ، قلنا : لا يجوز حمل الحديث على هذا ; لأن الإنقاء شرط بالاتفاق ، فكيف يحل به ويذكر ما ليس بشرط مع كونه موهما للاشتراط . فإن قيل : فقد ترك ذكر الإنقاء ، قلنا ذلك من المعلوم الذي يستغنى بظهوره عن ذكره بخلاف العدد ، فإنه لا يعرف إلا بتوقيف . فنص على ما يخفى وترك ما لا يخفى ، ولو حمل على ما قالوه لكان إخلالا بالشرطين معا ، وتعرضا لما لا فائدة فيه ، بل فيه إبهام . والجواب عن الحديث الذي احتجوا به أن الوتر الذي لا حرج في تركه هو الزائد على ثلاثة جمعا بين الأحاديث . والجواب عن الدليلين الآخرين سبق في كلام الخطابي ، والله أعلم



                                      ( فرع ) قال أصحابنا : لو مسح ذكره مرتين أو ثلاثة ثم خرجت منه قطرة ، وجب استئناف الثلاث .




                                      الخدمات العلمية