الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
استفظاع المؤلف للتقليد وأهله وانتهائه من تحليل القول بذمه

إلى منافاته لدين الإسلام

ويا لله العجب؟؟ ما قنع هؤلاء الجهلة النوكاء بما هم عليه من بدعة التقليد التي هي أم البدع ورأس الشنع، حتى سدوا على أمة محمد صلى الله عليه وسلم- باب معرفة الشريعة، من كتاب الله، وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- ، وأنه لا سبيل إلى ذلك، ولا طريق، حتى كأن الأفهام البشرية قد تغيرت، والعقول الإنسانية قد ذهبت.

وكل هذا حرص منهم على أن تعم بدعة التقليد كل الأمة، وألا يرتفع عن طبقتهم السالفة أحد من عباد الله.

وكأن هذه الشريعة التي بين أظهرنا من كتاب الله وسنة رسوله ، قد صارت منسوخة، والناسخ لها ما ابتدعوه من التقليد في دين الله، فلا يعمل الناس بشيء مما في الكتاب والسنة، بل لا شريعة لهم إلا ما قد تقرر في المذاهب - أذهبها الله -، فإن يوافقها ما في الكتاب والسنة، فبها ونعمت، والعمل على [ ص: 220 ] المذاهب، لا على ما وافقها منهما، وإن يخالفها أحدهما أو كلاهما، فلا عمل عليه، ولا يحل التمسك به.

هذا حاصل قولهم ومفاده وبيت قصيدهم، ومحل نشيدهم.

ولكنهم رأوا التصريح بمثل هذا تستنكره قلوب العوام، فضلا عن الخواص، وتقشعر منه جلودهم، وترجف له أفئدتهم، فعدلوا عن هذه العبارة الكفرية، والمقالة الجاهلية إلى ما يلاقيها في المراد، ويوافقها في المفاد، ولكن ينفق على العوام بعض نفاق، فقالوا: قد انسد باب الاجتهاد.

ومعنى هذا الانسداد المفترى، والكذب البحت: أنه لم يبق في أهل هذه الملة الإسلامية من يفهم الكتاب والسنة، وإذا لم يبق من هو كذلك، لم يبق سبيل إليهما، وإذا انقطع السبيل إليهما، فكل حكم فيهما لا عمل عليه، ولا التفات إليه، سواء وافق المذهب، أو خالفه; لأنه لم يبق من يفهمه ويعرف معناه إلى آخر الدهر.

فكذبوا على الله، وادعوا عليه سبحانه: أنه لا يتمكن من أن يخلق خلقا يفهمون ما شرعه لهم وتعبدهم به، حتى كان ما شرعه لهم من كتابه وعلى لسان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليس بشرع مطلقا، بل شرع مقيد موقت إلى غاية، هي قيام هذه المذاهب، وبعد ظهورها، لا كتاب، ولا سنة، بل قد حدث من يشرع لهذه الأمة شريعة جديدة، ويحدث لها دينا آخر، وينسخ بما رآه من الرأي، وما ظنه من الظن، ما يقدمه من الكتاب والسنة.

وهذا، وإن أنكروه بألسنتهم، فهو لازم لهم، لا محيص لهم عنه، ولا مهرب، وإلا فأي معنى لقولهم: قد انسد باب الاجتهاد؟ ولم يبق إلا مخرج التقليد.

[ ص: 221 ] فإنهم إن أقروا بأنهم قائلون بهذا، لزمهم الإقرار بما ذكرناه، فعند ذلك نتلو عليهم: اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله .

وإن أنكروا القول بذلك، وقالوا: باب الاجتهاد مفتوح، والتمسك بالتقليد غير حتم، فقل لهم: فما بالكم يا نوكاء ترمون كل من عمل بالكتاب والسنة، وأخذ دينه منهما، بكل حجر ومدر، وتستحلون عرضه وعقوبته، وتجلبون عليه بخيلكم ورجلكم؟

وقد علموا، وعلم كل من يعرف ما هم عليه: أنهم مصممون على تغليق باب الاجتهاد، وانقطاع السبيل إلى معرفة الكتاب والسنة، فلزمهم ما ذكرناه بلا تردد.

فانظر - أيها المنصف - ما حدث بسبب بدعة التقليد من البلايا الدنية، والرزايا الشيطانية، فإن هذه المقالة بخصوصها - أعني: انسداد باب الاجتهاد - لو لم يحدث من مفاسد التقليد إلا هي، لكان فيها كفاية ونهاية، فإنها حادثة رفعت الشريعة بأسرها، واستلزمت نسخ كلام الله ورسوله، وتقديم غيرهما، واستبدال غيرهما بهما.


يا ناعي الإسلام قم وانعه قد زال عرف وبدا منكر

وما ذكرنا فيما سبق من أنه كان في الزيدية والهادوية في الديار اليمنية إنصاف في هذه المسألة بفتح باب الاجتهاد، فذلك إنما هو في الأزمنة السابقة كما قررناه فيما سلف.

التالي السابق


الخدمات العلمية