الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
      صفحة جزء
      [ ص: 244 ]

      وهو الغني بذاته سبحانه جل ثناؤه تعالى شانه     وكل شيء رزقه عليه
      وكلنا مفتقر إليه

      .

      ( وهو الغني بذاته ) ، فله الغنى المطلق ، فلا يحتاج إلى شيء ( سبحانه ) وبحمده تنزيها له وتحميدا ( جل ثناؤه تعالى شانه ) تعظيما له وتمجيدا ، ( وكل شيء رزقه عليه ) لا رازق له سواه ، ولا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله ، وكلنا معشر المخلوقات ( مفتقر إليه ) ، لا غنى لنا عنه طرفة عين ، فكما أن جميع المخلوقات مفتقرة إليه - تعالى - في وجودها ، فلا وجود لها إلا به ، فهي مفتقرة إليه في قيامها ، فلا قوام لها إلا به ، فلا حركة ولا سكون إلا بإذنه ، فهو الحي القيوم القائم بنفسه ، فلا يحتاج إلى شيء ، القيم لغيره فلا قوام لشيء إلا به ، فللخالق مطلق الغنى وكماله ، وللمخلوق مطلق الفقر إلى الله وكماله ، قال الله عز وجل : ( ياأيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز ) ، ( فاطر : 15 - 17 ) ، وقال تعالى : ( ألم يأتكم نبأ الذين كفروا من قبل فذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب أليم ذلك بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فقالوا أبشر يهدوننا فكفروا وتولوا واستغنى الله والله غني حميد ) ، ( التغابن : 5 - 6 ) ، وقال تعالى : ( ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة إن الله لطيف خبير له ما في السماوات وما في الأرض وإن الله لهو الغني الحميد ) ، ( الحج : 64 ) ، وقال تعالى : ( قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض وهو يطعم ولا يطعم ) ، ( الأنعام : 14 ) ، وقال تعالى : ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين ) ، ( الذاريات : 56 - 58 ) ، وقال تعالى : ( ولله ما في السماوات وما في الأرض ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله غنيا حميدا ) ، ( النساء : 131 ) ، وقال - تعالى - ردا على اليهود : ( لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا ) ، ( آل عمران 180 ) ، وقال ردا عليهم أيضا : [ ص: 245 ] ( وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء ) ، ( المائدة : 64 ) ، وقال - تعالى - ردا على المنافقين : ( هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ولله خزائن السماوات والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون ) ، ( المنافقون 7 ) ، وقال تعالى : ( قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتورا ) ، ( الإسراء : 100 ) ، والآيات في هذا الباب كثيرة جدا ، يخبر - تعالى - بكمال غناه عن خلقه ، وأنه لا يزيد في غناه طاعة من أطاع ، ولا ينقصه معصية من عصى ، وأنه لم يخلق الخلق لحاجة إليهم ، وأنه لو شاء لم يخلقهم ، ولو شاء لذهب بهم وجاء بغيرهم ، ويخبر أنهم كلهم فقراء إليه ، لا غنى لهم عنه في نفس من الأنفاس ، وهم يعلمون ذلك من أنفسهم ، وأنهم لم يكونوا موجودين حتى أوجدهم ، ولا قدرة لهم على شيء من أنفسهم ولا غيرها إلا بما أقدرهم عليه الغني الحميد الفعال لما يريد ، وقال - تعالى - فيما رواه عنه رسوله محمد صلى الله عليه وسلم : يا عبادي ، إني حرمت الظلم على نفسي ، وجعلته بينكم محرما ، فلا تظالموا . يا عبادي ، كلكم ضال إلا من هديته ، فاستهدوني أهدكم . يا عبادي ، كلكم جائع إلا من أطعمته ، فاستطعموني أطعمكم . يا عبادي ، كلكم عار إلا من كسوته ، فاستكسوني أكسكم . يا عبادي ، إنكم تخطئون بالليل والنهار ، وأنا أغفر الذنوب جميعا ، فاستغفروني أغفر لكم . يا عبادي ، إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني . يا عبادي ، لو أن أولكم وآخركم ، وإنسكم وجنكم ، كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ، ما زاد ذلك في ملكي شيئا . يا عبادي ، لو أن أولكم وآخركم ، وإنسكم وجنكم ، كانوا على أفجر قلب رجل واحد ، ما نقص ذلك من ملكي شيئا . يا عبادي ، لو أن أولكم وآخركم ، وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني ، فأعطيت كل إنسان مسألته ، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر ، ولو أن أولكم وآخركم ، وحيكم وميتكم ، ورطبكم ويابسكم ، اجتمعوا على أتقى قلب عبد من عبادي ، ما زاد ذلك في ملكي جناح بعوضة . يا عبادي ، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ، ثم [ ص: 246 ] أوفيكم إياها ، فمن وجد خيرا ، فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك ، فلا يلومن إلا نفسه . رواه مسلم ، عن أبي ذر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه .

      وفي رواية الترمذي : يقول الله عز وجل : يا عبادي ، كلكم ضال إلا من هديت ، فسلوني الهدى أهدكم ، وكلكم فقير إلا من أغنيت ، فسلوني أرزقكم ، وكلكم مذنب إلا من عافيت ، فمن علم منكم أني ذو قدرة على المغفرة فاستغفرني ، غفرت له ولا أبالي ، ولو أن أولكم وآخركم ، وحيكم وميتكم ، ورطبكم ويابسكم اجتمعوا على أشقى قلب عبد من عبادي ، ما نقص ذلك من ملكي جناح بعوضة ، ولو أن أولكم وآخركم ، وجنكم وإنسكم ، وحيكم وميتكم ، ورطبكم ويابسكم اجتمعوا في صعيد واحد فسأل كل إنسان منكم ما بلغت أمنيته ، فأعطيت كل سائل منكم ما سأل ، ما نقص ذلك من ملكي إلا كما لو أن أحدكم مر بالبحر ، فغمس فيه إبرة ثم رفعها إليه ، ذلك بأني جواد واجد ماجد ، أفعل ما أريد ، عطائي كلام ، وعذابي كلام ، إنما أمري لشيء إذا أردته أن أقول له كن فيكون .

      وفي الصحيحين ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : يد الله ملأى لا تغيضها نفقة ، سحاء الليل والنهار ، أفرأيتم ما أنفق ربكم منذ خلق السماوات والأرض ، فإنه لم يغض ما في يمينه . وروى أبو داود بإسناد جيد من حديث عائشة - رضي الله عنها - في الاستسقاء ، وفيه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : الحمد لله رب العالمين ، الرحمن الرحيم ، ملك يوم الدين ، لا إله إلا الله ، يفعل ما يريد ، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت ، أنت الغني ونحن الفقراء ، أنزل علينا الغيث واجعل ما أنزلت علينا قوة وبلاغا إلى حين . وفي بعض [ ص: 247 ] الإسرائيليات ، يقول الله عز وجل : أيؤمل غيري للشدائد ، والشدائد بيدي ، وأنا الحي القيوم ، ويرجى غيري ويطرق بابه بالبكرات ، وبيدي مفاتيح الخزائن ، وبابي مفتوح لمن دعاني ، من ذا الذي أملني لنائبة فقطعت به ، أو من ذا الذي رجاني لعظم فقطعت به ، أو من ذا الذي طرق بابي فلم أفتحه له ، أنا غاية الآمال ، فكيف تنقطع الآمال دوني ، أبخيل أنا فيبخلني عبدي ، أليس الدنيا والآخرة والكرم والفضل كله لي ، فما يمنع المؤملين أن يؤملوني ، لو جمعت أهل السماوات والأرض ، ثم أعطيت كل واحد منهم ما أعطيت الجميع ، وبلغت كل واحد منهم أمله ، لم ينقص ذلك من ملكي عضو ذرة ، كيف ينقص ملك أنا قيمه ، فيا بؤسا للقانطين من رحمتي ، ويا بؤسا لمن عصاني وتوثب على محارمي . انتهى .

      وجاء في بعض ألفاظ حديث النزول : من يقرض غير عديم ولا ظلوم . والأحاديث في هذا الباب كثيرة جدا ، لو أردنا استقصاءها لطال الفصل ، وفيما ذكرنا كفاية ، فسبحان من وسع خلقه بغناه ، وافتقر كل شيء إليه ، وهو الغني عما سواه ، ( ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غني حميد ) ، ( لقمان : 12 ) .

      التالي السابق


      الخدمات العلمية