الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 1947 ] القول في تأويل قوله تعالى:

                                                                                                                                                                                                                                      [31] فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوءة أخيه قال يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي فأصبح من النادمين

                                                                                                                                                                                                                                      فبعث أي: أرسل: الله غرابا فجاء: يبحث أي: يحفر بمنقاره ورجله متعمقا: في الأرض

                                                                                                                                                                                                                                      قال القتيبي: هذا من الاختصار. ومعناه: بعث غرابا يبحث التراب على ميت. وكذا رواه السدي عن الصحابة; أنه تعالى بعث غرابين اقتتلا. فقتل أحدهما الآخر. فحفر له. ثم حثى عليه حثيا.

                                                                                                                                                                                                                                      ليريه الضمير المستكن إما لله تعالى أو للغراب. والظاهر، للقاتل أخاه: كيف يواري أي: يستر في التراب: سوءة أخيه أي: جسده الميت. وسمي سوأة لأنه مما يسوء ناظره: قال يا ويلتا كلمة جزع وتحسر، والألف فيها بدل من ياء المتكلم. والويل والويلة الهلكة: أعجزت أي: أضعفت عن الحيلة: أن أكون مثل هذا الغراب أي: الذي هو من أخس الحيوانات. والاستفهام للتعجب من عدم اهتدائه إلى ما اهتدى إليه الغراب: فأواري أي: أغطي: سوءة أخي فأصبح أي: صار: من النادمين أي: على حيرته في مواراته حيث لم يدفنه حين قتله. فصار أجهل من الحيوانات العجم وأضل منها وأدنى.

                                                                                                                                                                                                                                      وفي " التنوير ": ولم يكن نادما على قتله.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال أبو الليث عن ابن عباس: لو كانت ندامته على قتله لكانت الندامة توبة منه.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 1948 ] تنبيهات:

                                                                                                                                                                                                                                      الأول: ظاهر الآية أنه ما كان يعلم كيف يدفن المقتول، وأنه تعلم ذلك من الغراب. ولا مانع من ذلك. إذ مثله مما يجوز خفاؤه. لاسيما والعالم، في أول طور النشأة، وأنه أول قتيل، فيكون أول ميت.

                                                                                                                                                                                                                                      ونقل الرازي احتمال أن يكون عالما بكيفية دفنه، قال: فإنه يبعد في الإنسان أن لا يهتدي إلى هذا القدر من العمل، إلا أنه لما قتله تركه بالعراء استخفافا به، ولما رأى الغراب يدفن الغراب الآخر، رق قلبه ولم يرض أن يكون أقل شفقة منه. فواراه تحت الأرض، والله أعلم.

                                                                                                                                                                                                                                      الثاني: في الآية دلالة على أن الندم، إذا لم يكن لقبح المعصية، لم يكن توبة. قال الرازي: ندم على قساوة قلبه وكونه دون الغراب في الرحمة. فكان ندمه لذلك، لا لأجل الخوف من الله تعالى، فلا جرم لم ينفعه ذلك الندم.

                                                                                                                                                                                                                                      الثالث: الآية أصل في دفن الميت.

                                                                                                                                                                                                                                      الرابع: قال ابن جرير: زعم أهل التوراة أن قابيل لما قتل أخاه هابيل، قال له الله: يا قابيل! أين أخوك هابيل؟ قال: ما أدري. ما كنت عليه رقيبا. فقال الله: إن صوت دم أخيك ليناديني من الأرض، الآن أنت ملعون من الأرض التي فتحت فاها فبلعت دم أخيك من يدك. فإذا أنت عملت في الأرض فإنها لا تعود تعطيك حرثها، حتى تكون فزعا تائها في الأرض. انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      الخامس: روى ابن جرير بسنده عن علي بن أبي طالب قال: لما قتل ابن آدم أخاه بكى آدم فقال:

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 1949 ]

                                                                                                                                                                                                                                      تغيرت البلاد ومن عليها فلون الأرض مغبر قبيح

                                                                                                                                                                                                                                          تغير كل ذي لون وطعم
                                                                                                                                                                                                                                      وقل بشاشة الوجه المليح



                                                                                                                                                                                                                                      فأجيب آدم عليه الصلاة والسلام:


                                                                                                                                                                                                                                      أبا هابيل! قد قتلا جميعا     وصار الحي كالميت الذبيح


                                                                                                                                                                                                                                      وجاء بشرة قد كان منها     على خوف، فجاء بها يصيح



                                                                                                                                                                                                                                      أقول: قد اشتهر البيتان الأولان. وقد فند نسبتهما إلى آدم غير واحد.

                                                                                                                                                                                                                                      قال الزمخشري: روي أن آدم رثاه بشعر. وهو كذب بحت. وما الشعر إلا منحول ملحون. وقد صح أن الأنبياء عليهم السلام معصومون من الشعر. انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      قال الشراح: (المليح) في النظم المذكور، إن رفع فخطأ. لأنه صفة الوجه المجرور، وإن خفض فإقواء وهو عيب قبيح، وإن كثر. وقول من قال (الوجه فاعل قل. وبشاشة منصوب على التمييز بحذف التنوين، إجراء للوصل مجرى الوقف) ألحن، وقيل: إن آدم عليه الصلاة والسلام رثاه بكلام منثور بالسرياني. فلم يزل ينقل إلى أن وصل إلى يعرب بن قحطان - وهو أول من خط بالعربية - فقدم وأخر وجعله شعرا عربيا. انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      قال الخفاجي. لا شك أن لوائح الوضع عليه رائحة لركاكته، لكن ما استصعبوه من الإقواء، وترك التنوين، ليس بصعب، لما في أشعار الجاهلية والشعراء من أمثاله. مع أنه قد يخرج بأنه نعت جرى على المحل. لأن الوجه فاعل المصدر، وهو (بشاشة).

                                                                                                                                                                                                                                      السادس: حكمة تخصيص الغراب كون الغراب دأبه المواراة.

                                                                                                                                                                                                                                      قال أبو مسلم: عادة الغراب دفن الأشياء. فجاء غراب فدفن شيئا فتعلم ذلك منه. انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      والغراب هو الطائر الأسود المعروف. وقسموه إلى أنواع. وفي الحديث: أنه صلى الله عليه وسلم غير اسم غراب لما فيه من البعد. ولأنه من أخبث الطيور. والعرب تقول: أبصر من غراب، [ ص: 1950 ] وأحذر من غراب، وأزهى من غراب، وأصفى عيشا من غراب، وأشد سوادا من غراب، وهذا بأبيه أشبه من الغراب بالغراب. وإذا نعتوا أرضا بالخصب قالوا: وقع في أرض لا يطير غرابها. ويقولون: وجد تمرة الغراب، وذلك أنه يتبع أجود التمر فينتقيه. ويقولون: أشأم من غراب وأفسق من غراب. ويقولون: طار غراب فلان، إذا شاب رأسه.

                                                                                                                                                                                                                                      وغراب غارب على المبالغة. كما قالوا: شعر شاعر، وموت مائت. قال رؤبة:


                                                                                                                                                                                                                                      فازجر من الطير الغراب الغاربا



                                                                                                                                                                                                                                      قالوا: وليس شيء في الأرض يتشاءم به إلا والغراب أشأم منه. وللبديع الهمذاني فصل بديع في وصفه. ذكره في "المضاف والمنسوب" وأورد ما يضاف إليه الغراب ويضاف إلى الغراب. والأبيات في غراب البين كثيرة، ملئت بها الدفاتر.

                                                                                                                                                                                                                                      وحقق الإمام أبو عبد الله الشريف الغرناطي - قاضي غرناطة - في شرحه على "مقصورة حازم" أن غراب البين في الحقيقة هو الإبل التي تنقلهم من بلاد إلى بلاد.

                                                                                                                                                                                                                                      وأنشد في ذلك مقاطيع. منها:


                                                                                                                                                                                                                                      غلط الذين رأيتهم بجهالة     يلحون كلهم غرابا ينعق


                                                                                                                                                                                                                                      ما الذنب إلا للأباعر إنها     مما يشتت جمعهم ويفرق


                                                                                                                                                                                                                                      إن الغراب بيمنه تدنو النوى     وتشتت الشمل الجميع الأينق



                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 1951 ] وأنشد ابن المنساوي لابن عبد ربه:


                                                                                                                                                                                                                                      زعق الغراب فقلت: أكذب طائر     إن لم يصدقه رغاء بعير



                                                                                                                                                                                                                                      كذا في "تاج العروس" شرح القاموس.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى:

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية