الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            [ ص: 466 ] باب الضمان على البهائم

                                                                                                                                            قال الشافعي : " أخبرنا مالك ، عن الزهري ، عن حرام بن سعد بن محيصة ، أن ناقة للبراء دخلت حائطا فأفسدت فيه ، فقضى عليه السلام أن على أهل الأموال حفظها بالنهار ، وما أفسدت المواشي بالليل فهو ضامن على أهلها . ( قال الشافعي ) رحمه الله : والضمان على البهائم وجهان : أحدهما : ما أفسدت من الزرع بالليل ضمنه أهلها ، وما أفسدت بالنهار لم يضمنوه " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : هذا الباب مقصور على جنايات البهائم المضمونة على أربابها ، بعد ما تقدم من جنايات الآدميين المضمونة عليهم ، وهي ضربان :

                                                                                                                                            أحدهما : أن تكون سارحة في مراعيها وهي مسألة الكتاب فتعدل من مراعيها إلى زروع ترعاها ، وأشجار تفسدها ، أو تفسد ثمرها ، فهذا على ضربين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن يكون معها أربابها ، فيضمنوا ما أفسدته ليلا ونهارا : لأن فعل البهيمة إذا كانت مع صاحبها منسوب إليه ، وإذا لم يكن معها منسوب إليها ، كالكلب إذا أرسله صاحبه أكل ما صاده ، وإذا استرسل بنفسه لم يؤكل .

                                                                                                                                            والضرب الثاني : أن تنفرد البهائم عن أربابها ، ولا يكونوا معها ، فهذا على ضربين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن ينسب أربابها إلى التفريط : لإرسالهم لها فيما لا يستبيحون رعيه ، أو فيما يضيق عن كفاياتهم ، كحريم الأنهار وطرق الضباع ، فعليهم ضمان ما أفسدته ليلا ونهارا : لأن التفريط عدوان يوجب الضمان .

                                                                                                                                            والضرب الثاني : أن لا ينسب أربابها إلى التفريط : لإرسالهم لها نهارا في موات يتسع لها ، وحبسها ليلا في مراحها وعطنها ، فذهب الشافعي أنه لا ضمان عليهم فيما رعته نهارا ، وعليهم ضمان ما رعته ليلا ، وفرق بين رعي الليل والنهار بالسنة والاعتبار .

                                                                                                                                            [ ص: 467 ] وسوى أبو حنيفة بين رعي الليل والنهار ، ولم يفرق بينهما ، واختلف أصحابه في مذهبه الذي سوى فيه بين الليل والنهار ، فحكى البغداديون منهم عنه : سقوط الضمان في الزمانين . وحكى الخراسانيون عنه : وجوب الضمان في الزمانين .

                                                                                                                                            واستدل من ذهب إلى سقوط الضمان فيهما بقول النبي صلى الله عليه وسلم : العجماء جبار .

                                                                                                                                            وروي : جرح العجماء جبار .

                                                                                                                                            والعجماء : البهيمة . والجبار : الهدر الذي لا يضمن . ولأن ما سقط ضمانه نهارا سقط ضمانه ليلا ، كالودائع طردا والغصوب عكسا .

                                                                                                                                            واستدل من ذهب إلى وجوب الضمان في الزمانين بقول النبي صلى الله عليه وسلم : لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه ولأن ما وجب ضمانه ليلا وجب ضمانه نهارا ، كالغصوب طردا والودائع عكسا .

                                                                                                                                            ودليلنا على الفرق بين الزمانين في وجوب الضمان ليلا وسقوطه نهارا : سنة الرسول صلى الله عليه وسلم بعد ما ورد به التنزيل في قصة داود وسليمان ، قال الله تعالى : وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما [ الأنبياء : 78 - 79 ] وفي الحرث الذي حكما فيه قولان :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه زرع وقعت فيه الغنم ليلا ، قاله قتادة ، وهو الأشبه بلفظ الحرث .

                                                                                                                                            والثاني : أنه كرم وقعت فيه الغنم ، قاله ابن مسعود ، وهو أشهر في النقل .

                                                                                                                                            إذ نفشت فيه غنم القوم [ الأنبياء : 78 ] والنفش : رعي الليل . والهمل : رعي النهار . قاله قتادة . فدل على أن القضاء كان في رعي الليل دون النهار .

                                                                                                                                            وكنا لحكمهم شاهدين [ الأنبياء : 78 ] يعني : حكم داود وحكم سليمان ، والذي حكم به داود على ما ورد به النقل وإن لم يدل القرآن عليه ، أنه جعل الغنم ملكا لصاحب الحرث عوضا عن فساده ، وكان سليمان عليه السلام حاضر الحكمة ، فقال : أرى أن تدفع الغنم إلى صاحب الكرم : لينتفع بها ، ويدفع الكرم إلى صاحب الغنم : ليعمره ، فإذا عاد إلى ما كان عليه رده على صاحبه واسترجع غنمه ، فصوب الله تعالى حكم سليمان وبين خطأ داود فقال : ففهمناها سليمان [ الأنبياء : 79 ] فرد داود حكمه ، وأمضى حكم سليمان ، ثم قال تعالى : وكلا آتينا حكما وعلما [ الأنبياء : 79 ] يحتمل وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه آتى كل واحد منهما حكما وعلما في وجوب ذلك الضمان ليلا ، وإن اختلفا في صفته : لأنهما اتفقا على وجوب الضمان ، وإن اختلفا في الصفة .

                                                                                                                                            [ ص: 468 ] والثاني : معناه أن خص كل واحد منهما بعلم أفرده به دون الآخر ، فصار كل واحد منهما قد أوتي حكما وعلما .

                                                                                                                                            فإن قيل : فكيف نقض داود حكمه باجتهاد غيره ؟ فعنه جوابان :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه ذكر الحكم ولم يمضه ، حتى بان له صواب ما حكم به سليمان فعدل إليه ، وحكم به . وهذا جائز .

                                                                                                                                            والثاني : أن الله تعالى صوب قضاء سليمان ، فصار نصا ، وحكم ما خالف النص مردود .

                                                                                                                                            والدليل من هذه الآية على من سوى بين الليل والنهار . وفي سقوط الضمان نص صريح : لأن الله تعالى قد أوجبه في رعي الغنم في الليل . وعلى من سوى بينهما في وجوب الضمان من طريق التنبيه : لأنه حكم على صفة تقتضي انتفاء عند عدمها ، ثم جاءت السنة بنص صريح في الفرق بين الليل والنهار ، وهو الحديث المتقدم في صدر الكتاب رواه الشافعي ، عن مالك ، عن الزهري ، عن حرام بن سعد بن محيصة أن ناقة للبراء بن عازب دخلت حائطا فأفسدت ، فإن قيل : حرام بن سعد لا صحبة له ، فكان مرسلا .

                                                                                                                                            قيل . قد رواه الشافعي مسندا ، عن أيوب بن سويد ، عن الأوزاعي ، عن الزهري ، عن حرام بن سعد بن محيصة ، عن البراء بن عازب أنه كانت له ناقة ضارية دخلت حائط قوم ، فأفسدت فيه فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن على أهل الأموال حفظها بالنهار ، وما أفسدت المواشي بالليل فهو ضمان على أهلها . فقد رواه الشافعي ، عن مالك ، عن الزهري ، مرسلا ، ورواه الشافعي ، عن أيوب ، عن الأوزاعي ، عن الزهري ، مسندا فتأكد . وهو نص صريح في وجوب الضمان بالليل ، وسقوطه بالنهار لا تأويل فيه بصرفه عن ظاهر نصه ، ثم الفرق بين الليل والنهار من طريق المعنى من وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن المواشي والزروع مرصدان لطلب الفضل فيهما ، واستمداد الرزق منهما ، والفضل في المواشي بإرسالها نهارا في مراعيها ، فسقط حفظها فيه . والفضل في الزروع بعمل أهلها نهارا فيها ، فوجب عليهم حفظها فيه .

                                                                                                                                            والثاني : أن الليل زمان النوم والدعة ، فلزم أرباب المواشي فيه حفظها في أفنيتهم ومساكنهم ، وسقط فيه عن أرباب الزروع حفظها لإيوائهم فيه إلى مساكنهم ، فثبت بهذين حفظ الزروع على أهلها في النهار دون الليل ، وحفظ المواشي على أهلها [ ص: 469 ] بالليل دون النهار ، فلذلك صار رعي النهار هدرا : لوجوب الحفظ فيه على أرباب الزروع ، ورعي الليل مضمونا بالوجوب : للحفظ فيه على أرباب المواشي .

                                                                                                                                            والدليل من القياس على من سوى بين الليل والنهار ، في وجوب الضمان : أن النهار زمان لا ينسب أرباب المواشي فيه إلى التفريط ، فوجب أن يسقط عنهم ضمان ما أفسدته قياسا على غير الزروع .

                                                                                                                                            والدليل على من سوى بين الليل والنهار ، في سقوط الضمان : أن الليل زمان ينسب أرباب المواشي فيه إلى التفريط ، فوجب أن يلزمهم الضمان ما أفسدت ، قياسا على غير الزروع .

                                                                                                                                            والدليل من القياس على الفريقين : أنها بهائم أفسدت مالا فوجب أن يكون الضمان معتبرا بجهة التفريط قياسا على غير الزروع من سائر الأموال .

                                                                                                                                            فأما جواب من أسقط الضمان لقوله العجماء جبار فمن وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن الرواية : " جرح العجماء " ، والجرح لا يكون في رعي الزروع .

                                                                                                                                            والثاني : أنه محمول على رعي النهار .

                                                                                                                                            والجواب عن قياسهم على رعي النهار : فالمعنى في النهار عدم التفريط ، وفي الليل وجود التفريط فافترقا . وأما جواب من أوجب الضمان لقوله : " لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه " ، فهو أنه ليس استعماله في حفظ أموال أرباب الزروع بأولى من استعماله في حفظ أموال أرباب المواشي ، فسقط الاستدلال به لتكافؤ الأمرين فيه .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن قياسهم على رعي الليل ، فالمعنى في الليل وجود التفريط ، وفي النهار عدمه .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية