الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله ( أو كالذي مر على قرية )

قال أبو جعفر : يعني - تعالى ذكره - بقوله : " أو كالذي مر على قرية " نظير الذي عنى بقوله : " ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه " من تعجيب محمد - صلى الله عليه وسلم - منه .

وقوله : " أو كالذي مر على قرية " عطف على قوله : " ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه " وإنما عطف قوله : " أو كالذي " على قوله : " إلى الذي حاج إبراهيم في ربه " وإن اختلف لفظاهما لتشابه معنييهما ؛ لأن قوله : " ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه " بمعنى : هل رأيت يا محمد كالذي حاج إبراهيم في ربه ؟ ثم عطف عليه بقوله : " أو كالذي مر على قرية " ؛ لأن من شأن العرب العطف بالكلام على معنى نظير له قد تقدمه ، وإن خالف لفظه لفظه .

وقد زعم بعض نحويي البصرة أن " الكاف " في قوله ، " أو كالذي مر على قرية " زائدة ، وأن المعنى : ألم ترى إلى الذي حاج إبراهيم ، أو الذي مر على قرية .

وقد بينا قبل فيما مضى أنه غير جائز أن يكون في كتاب الله شيء لا معنى له ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع . [ ص: 439 ]

واختلف أهل التأويل في " الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها " .

فقال بعضهم : هو عزير .

ذكر من قال ذلك :

5882 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن ناجية بن كعب . " أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها " قال : عزير .

5883 - حدثنا ابن حميد . قال : حدثنا يحيى بن واضح قال : حدثنا أبو خزيمة ، قال : سمعت سليمان بن بريدة في قوله : " أو كالذي مر على قرية " قال : هو عزير .

5884 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها " قال : ذكر لنا أنه عزير .

5885 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة [ مثله ] .

5886 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه قوله : " أو كالذي مر على قرية " قال : قال الربيع : ذكر لنا - والله أعلم - أن الذي أتى على القرية هو عزير .

5887 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج عن ابن جريج ، عن عكرمة : " أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها " قال : عزير . [ ص: 440 ]

5888 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط عن السدي : " أو كالذي مر على قرية " قال : عزير .

5889 - حدثت عن الحسين قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : " أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها " إنه هو عزير .

5890 - حدثني يونس قال : قال لنا سلم الخواص : كان ابن عباس يقول : هو عزير .

وقال آخرون : هو أورميا بن حلقيا ، وزعم محمد بن إسحاق أن أورميا هو الخضر .

5891 - حدثنا بذلك ابن حميد قال : حدثنا سلمة قال : حدثنا ابن إسحاق قال : اسم الخضر فيما كان وهب بن منبه يزعم عن بني إسرائيل - أورميا بن حلقيا ، وكان من سبط هارون بن عمران .

ذكر من قال ذلك :

5892 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : حدثنا عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن منبه يقول في قوله : " أنى يحيي هذه الله بعد موتها [ ص: 441 ] " أن أورميا لما خرب بيت المقدس وحرقت الكتب ، وقف في ناحية الجبل ، فقال : " أنى يحيي هذه الله بعد موتها " .

5893 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة قال : حدثني ابن إسحاق ، عمن لا يتهم ، عن وهب بن منبه قال : هو أورميا .

5894 - حدثني محمد بن عسكر قال : حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال : سمعت عبد الصمد بن معقل ، عن وهب بن منبه مثله .

5895 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى بن ميمون ، عن قيس بن سعد ، عن عبد الله بن عبيد بن عمير في قول الله : " أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها " قال : كان نبيا وكان اسمه أورميا .

5896 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن قيس بن سعد ، عن عبد الله بن عبيد مثله .

5897 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : أخبرني بكر بن [ مضر ] قال : يقولون - والله أعلم - : إنه أورميا .

قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله - تعالى ذكره - عجب نبيه - صلى الله عليه وسلم - ممن قال - إذ رأى قرية خاوية على عروشها - " أنى يحيي هذه الله بعد موتها " مع علمه أنه ابتدأ خلقها من غير شيء ، فلم يقنعه علمه بقدرته على ابتدائها حتى قال : أنى يحييها الله بعد موتها . ولا بيان عندنا من الوجه الذي يصح من قبله البيان على اسم قائل ذلك . وجائز أن يكون ذلك [ ص: 442 ] عزيرا ، وجائز أن يكون أورميا ، ولا حاجة بنا إلى معرفة اسمه ، إذ لم يكن المقصود بالآية تعريف الخلق اسم قائل ذلك ، وإنما المقصود بها تعريف المنكرين قدرة الله - على إحيائه خلقه بعد مماتهم ، وإعادتهم بعد فنائهم ، وأنه الذي بيده الحياة والموت - من قريش ، ومن كان يكذب بذلك من سائر العرب وتثبيت الحجة بذلك على من كان بين ظهراني مهاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من يهود بني إسرائيل ، بإطلاعه نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - على ما يزيل شكهم في نبوته ، ويقطع عذرهم في رسالته ، إذ كانت هذه الأنباء التي أوحاها إلى نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - في كتابه من الأنباء التي لم يكن يعلمها محمد - صلى الله عليه وسلم - وقومه ، ولم يكن علم ذلك إلا عند أهل الكتاب ، ولم يكن محمد - صلى الله عليه وسلم - وقومه منهم ، بل كان أميا وقومه أميون ، فكان معلوما بذلك عند أهل الكتاب من اليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجره ، أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - لم يعلم ذلك إلا بوحي من الله إليه . ولو كان المقصود بذلك الخبر عن اسم قائل ذلك لكانت الدلالة منصوبة عليه نصبا يقطع العذر ويزيل الشك ، ولكن القصد كان إلى ذم قيله ، فأبان - تعالى ذكره - ذلك لخلقه .

واختلف أهل التأويل في " القرية " التي مر عليها القائل : " أنى يحيي هذه الله بعد موتها " .

فقال بعضهم : هي بيت المقدس .

ذكر من قال ذلك :

5898 - حدثني محمد بن سهل بن عسكر ومحمد بن عبد الملك ، قالا حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال : حدثني عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن [ ص: 443 ] منبه قال : لما رأى أورميا هدم بيت المقدس كالجبل العظيم ، قال : " أنى يحيي هذه الله بعد موتها " .

5899 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن منبه قال : هي بيت المقدس .

5900 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة قال : حدثني ابن إسحاق عمن لا يتهم أنه سمع وهب بن منبه يقول ذلك .

5901 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : ذكر لنا أنه بيت المقدس أتى عليه عزير بعد ما خربه بختنصر البابلي .

5902 - حدثت عن الحسين قال : سمعت أبا معاذ قال : حدثنا عبيد بن سليمان قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : " أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها " أنه مر على الأرض المقدسة .

5903 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة في قوله : " أو كالذي مر على قرية " قال : القرية : بيت المقدس ، مر بها عزير بعد إذ خربها بختنصر .

5904 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " أو كالذي مر على قرية " قال : القرية بيت المقدس ، مر عليها عزير وقد خربها بختنصر .

وقال آخرون : بل هي القرية التي كان الله أهلك فيها الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت ، فقال لهم الله موتوا .

ذكر من قال ذلك : [ ص: 444 ]

5905 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قول الله - تعالى ذكره - : ( ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف ) قال : قرية كان نزل بها الطاعون ثم اقتص قصتهم التي ذكرناها في موضعها عنه ، إلى أن بلغ ( فقال لهم الله موتوا ) في المكان الذي ذهبوا يبتغون فيه الحياة ، فماتوا ثم أحياهم الله ، ( إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون ) [ سورة البقرة : 243 ] . قال : ومر بها رجل وهي عظام تلوح ، فوقف ينظر ، فقال : " أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه " إلى قوله " لم يتسنه " .

قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك كالقول في اسم القائل : " أنى يحيي هذه الله بعد موتها " سواء لا يختلفان .

التالي السابق


الخدمات العلمية