الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله ( فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه )

قال أبو جعفر : يعني - تعالى ذكره - بقوله : ( فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه ) لم تغيره السنون التي أتت عليه .

وكان طعامه - فيما ذكر بعضهم - سلة تين وعنب ، وشرابه قلة ماء .

وقال بعضهم : بل كان طعامه سلة عنب وسلة تين ، وشرابه زقا من عصير .

وقال آخرون : بل كان طعامه سلة تين ، وشرابه دن خمر - أو زكرة خمر . [ ص: 460 ]

وقد ذكرنا فيما مضى قول بعضهم في ذلك ، ونذكر ما فيه فيما يستقبل إن شاء الله .

وأما قوله : ( لم يتسنه ) ففيه وجهان من القراءة :

أحدهما : " لم يتسن " بحذف " الهاء " في الوصل ، وإثباتها في الوقف . ومن قرأه كذلك فإنه يجعل الهاء في " يتسنه " زائدة صلة ، كقوله : ( فبهداهم اقتده ) [ الأنعام : 90 ] وجعل " تفعلت " منه : . " تسنيت تسنيا " واعتل في ذلك بأن " السنة " تجمع سنوات ، فيكون " تفعلت " على صحة .

ومن قال في " السنة " " سنينة " فجائز على ذلك وإن كان قليلا أن يكون " تسنيت " . " تفعلت " بدلت النون ياء لما كثرت النونات كما قالوا : " تظنيت " وأصله " الظن " ; وقد قال قوم : هو مأخوذ من قوله : ( من حمإ مسنون ) [ الحجر : 26 ، 28 ، 33 ] وهو المتغير . وذلك أيضا إذا كان كذلك ، فهو أيضا مما بدلت نونه ياء .

وهو قراءة عامة قرأة الكوفة . [ ص: 461 ]

والآخر منهما : إثبات " الهاء " في الوصل والوقف . ومن قرأه كذلك ، فإنه يجعل " الهاء " في " يتسنه " لام الفعل ، ويجعلها مجزومة ب " لم " ويجعل " فعلت " منه : " تسنهت " " ويفعل " : " أتسنه تسنها " وقال في تصغير " السنة " : " سنيهة " " وسنية " " أسنيت عند القوم " " وأسنهت عندهم " إذا أقمت سنة .

وهذه قراءة عامة قرأة أهل المدينة والحجاز .

قال أبو جعفر : والصواب من القراءة عندي في ذلك إثبات " الهاء " في الوصل والوقف ، لأنها مثبتة في مصحف المسلمين ، ولإثباتها وجه صحيح في كلتا الحالتين في ذلك .

ومعنى قوله : ( لم يتسنه ) ، لم يأت عليه السنون فيتغير على لغة من قال : " أسنهت عندكم أسنه " : إذا أقام سنة ، وكما قال الشاعر : .


وليست بسنهاء ولا رجبية ولكن عرايا في السنين الجوائح

[ ص: 462 ]

فجعل " الهاء " في " السنة " أصلا وهي اللغة الفصحى .

وغير جائز حذف حرف من كتاب الله في حال وقف أو وصل لإثباته وجه معروف في كلامها .

فإن اعتل معتل بأن المصحف قد ألحقت فيه حروف هن زوائد على نية الوقف ، والوجه في الأصل عند القراءة حذفهن ، وذلك كقوله : ( فبهداهم اقتده ) [ الأنعام : 90 ] وقوله : ( يا ليتني لم أوت كتابيه ) [ الحاقة : 25 ] فإن ذلك هو مما لم يكن فيه شك أنه من الزوائد ، وأنه ألحق على نية الوقف . فأما ما كان محتملا أن يكون أصلا للحرف غير زائد ، فغير جائز وهو في مصحف المسلمين مثبت صرفه إلى أنه من الزوائد والصلات . [ ص: 463 ]

على أن ذلك ، وإن كان زائدا فيما لا شك أنه من الزوائد ، فإن العرب قد تصل الكلام بزائد ، فتنطق به على نحو منطقها به في حال القطع ، فيكون وصلها إياه وقطعها سواء . وذلك من فعلها دلالة على صحة قراءة من قرأ جميع ذلك بإثبات " الهاء " في الوصل والوقف . غير أن ذلك - وإن كان كذلك - فلقوله : ( لم يتسنه ) حكم مفارق حكم ما كان هاؤه زائدا لا شك في زيادته فيه .

ومما يدل على صحة ما قلنا من أن " الهاء " في " يتسنه " من لغة من قال : " قد أسنهت " " والمسانهة " ما : -

5918 - حدثت به عن القاسم بن سلام قال : حدثنا ابن مهدي ، عن أبي الجراح ، عن سليمان بن عمير قال : حدثني هانئ مولى عثمان قال : كنت الرسول بين عثمان وزيد بن ثابت ، فقال زيد : سله عن قوله : " لم يتسن " أو " لم يتسنه " فقال عثمان : اجعلوا فيها " هاء " .

5919 - حدثت عن القاسم وحدثنا محمد بن محمد العطار ، عن القاسم ، وحدثنا أحمد والعطار جميعا ، عن القاسم قال : حدثنا ابن مهدي ، عن ابن المبارك قال : حدثني أبو وائل شيخ من أهل اليمن عن هانئ البربري قال : كنت عند عثمان وهم يعرضون المصاحف ، فأرسلني بكتف شاة إلى أبي بن كعب فيها : " لم يتسن " " وفأمهل الكافرين " [ الطارق : 17 ] " ولا تبديل للخلق " [ الروم : 30 ] . [ ص: 464 ] قال : فدعا بالدواة ، فمحا إحدى اللامين وكتب ( لا تبديل لخلق الله ) ومحا " فأمهل " وكتب ( فمهل الكافرين ) وكتب : ( لم يتسنه ) ألحق فيها الهاء . .

قال أبو جعفر : ولو كان ذلك من " يتسنى " أو " يتسنن " لما ألحق فيه أبي " هاء " لا موضع لها فيه ، ولا أمر عثمان بإلحاقها فيها .

وقد روي عن زيد بن ثابت في ذلك نحو الذي روي فيه عن أبي بن كعب .

قال أبو جعفر : واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : ( لم يتسنه ) .

فقال بعضهم بمثل الذي قلنا فيه من أن معناه : لم يتغير .

ذكر من قال ذلك :

5920 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة بن المفضل ، عن محمد بن إسحاق ، عمن لا يتهم ، عن وهب بن منبه : ( لم يتسنه ) لم يتغير .

5921 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( لم يتسنه ) لم يتغير .

5922 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة مثله .

5923 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، [ ص: 465 ] عن السدي : ( فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه ) يقول : " فانظر إلى طعامك " من التين والعنب " وشرابك " من العصير " لم يتسنه " يقول : لم يتغير فيحمض التين والعنب ، ولم يختمر العصير ، هما حلوان كما هما . وذلك أنه مر جائيا من الشام على حمار له ، معه عصير وعنب وتين ، فأماته الله ، وأمات حماره ، ومر عليهما مائة سنة .

5924 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال : سمعت أبا معاذ قال : أخبرنا عبيد بن سليمان قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه ) يقول : لم يتغير ، وقد أتى عليه مائة عام .

5925 - حدثني المثنى قال : أخبرنا إسحاق قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك بنحوه .

5926 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : ( لم يتسنه ) لم يتغير .

5927 - حدثنا سفيان قال : حدثنا أبي ، عن النضر ، عن عكرمة : ( لم يتسنه ) لم يتغير .

5928 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد : ( لم يتسنه ) لم يتغير في مائة سنة .

5929 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : أخبرني بكر بن مضر قال : يزعمون في بعض الكتب أن أرميا كان بإيليا حين خربها بختنصر ، فخرج منها إلى مصر فكان بها . فأوحى الله إليه أن اخرج منها إلى بيت المقدس . فأتاها فإذا هي خربة ، فنظر إليها فقال : " أنى يحيي هذه الله بعد موتها " ؟ فأماته الله مائة عام ثم بعثه ، فإذا حماره حي قائم على رباطه ، وإذا طعامه سل عنب [ ص: 466 ] وسل تين ، لم يتغير عن حاله .

قال يونس : قال لنا سلم الخواص : كان طعامه وشرابه سل عنب ، وسل تين ، وزق عصير .

وقال آخرون : معنى ذلك : لم ينتن .

ذكر من قال ذلك :

5930 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : ( لم يتسنه ) لم ينتن .

5931 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .

5932 - حدثني القاسم قال : حدثنا الحسن قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : قال مجاهد قوله : ( إلى طعامك ) قال : سل تين ( وشرابك ) ، دن خمر ( لم يتسنه ) يقول : لم ينتن .

قال أبو جعفر : وأحسب أن مجاهدا والربيع ومن قال في ذلك بقولهما رأوا أن قوله : ( لم يتسنه ) من قول الله - تعالى ذكره - : ( من حمإ مسنون ) [ الحجر : 26 ، 28 ، 33 ] بمعنى المتغير الريح بالنتن ، من قول القائل : " تسنن " . وقد بينت الدلالة فيما مضى على أن ذلك ليس كذلك .

فإن ظن ظان أنه من " الأسن " من قول القائل : " أسن هذا الماء يأسن أسنا ، [ ص: 467 ] كما قال الله - تعالى ذكره - : ( فيها أنهار من ماء غير آسن ) [ محمد : 15 ] ، فإن ذلك لو كان كذلك لكان الكلام : فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتأسن ، ولم يكن " يتسنه " .

[ فإن قيل ] : فإنه منه غير أنه ترك همزه ،

قيل : فإنه وإن ترك همزه ، فغير جائز تشديد نونه ، لأن " النون " غير مشددة ، وهي في " يتسنه " مشددة ، ولو نطق من " يتأسن " بترك الهمزة لقيل : " يتسن " بتخفيف نونه بغير " هاء " تلحق فيه . ففي ذلك بيان واضح أنه غير جائز أن يكون من " الأسن " .

التالي السابق


الخدمات العلمية