الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            [ ص: 102 ] باب : أصل فرض الجهاد

                                                                                                                                            قال الشافعي - رحمه الله - : " لما مضت بالنبي - صلى الله عليه وسلم - مدة من هجرته أنعم الله فيها على جماعات باتباعه ، حدثت لها مع عون الله قوة بالعدد لم تكن قبلها ، ففرض الله عليهم الجهاد فقال تعالى : كتب عليكم القتال وهو كره لكم ، وقال تعالى وقاتلوا في سبيل الله ، مع ما ذكرته فرض الجهاد " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وإذ قد مضت سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أعلام نبوته ، وترتيب شريعته وما سار بأمته في حربه وغزواته التي لا يستوضح العلماء طريق الشرع إلا بها ، فهذا الباب يشمل منها على فصلين :

                                                                                                                                            أحدهما : وجوب الهجرة .

                                                                                                                                            والثاني : فرض الجهاد .

                                                                                                                                            فأما الفصل الأول : في وجوب الهجرة ، فالكلام فيها يشمل على فصلين :

                                                                                                                                            أحدهما : حكمها في زمان الرسول ، صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                            والثاني : حكمها بعده .

                                                                                                                                            فأما حكمها في زمانه فلها حالتان .

                                                                                                                                            إحداهما : قبل هجرته إلى المدينة .

                                                                                                                                            والثانية : بعد هجرته إليها .

                                                                                                                                            فأما حكمها وهو بمكة قبل هجرته إلى المدينة فهي مختصة بالإباحة دون الوجوب : لأنها هجرة عن الرسول ، فقد كان المسلمون حين اشتد بهم الأذى ، وتتبعتهم قريش بالمكاره ، رغبوا إلى الله في الإذن لهم بالهجرة عنهم ، فقالوا ما حكاه الله تعالى عنهم : ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها [ النساء : 75 ] . يعني مكة : واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا [ النساء : 75 ] . فأجابهم الله تعالى إلى ما سألوا من الهجرة فقال تعالى : ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة [ النساء : 100 ] .

                                                                                                                                            [ ص: 103 ] وفيها تأويلان :

                                                                                                                                            أحدهما : أن المراغم المتحول من أرض إلى أرض .

                                                                                                                                            والسعة : المال .

                                                                                                                                            والثاني : أن المراغم طلب المعاش .

                                                                                                                                            والسعة : طيب العيش ، فكانت الهجرة مباحة لمن خاف على نفسه من الأذى أو على دينه من الفتنة .

                                                                                                                                            فأما الآمن على نفسه ودينه فهجرته عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - معصية إلا لحاجة لما في مقامه من ظهور الإيمان وكثرة العدد ، وهذه الهجرة قد كانت من المسلمين إلى أرض الحبشة وهي مباح وليست بواجبة ، وفى هذه الهجرة إلى أرض الحبشة نزل قوله تعالى : والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا [ النحل : 41 ] . يعني : هاجروا إلى أرض الحبشة من بعد ما ظلمهم أهل مكة لنبوئنهم في الدنيا حسنة [ النحل : 41 ] . فيه تأويلان :

                                                                                                                                            أحدهما : نزول المدينة ، قاله ابن عباس .

                                                                                                                                            والثاني : النصر على عدوهم ، قاله الضحاك .

                                                                                                                                            وأما حكمها بعد هجرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مكة إلى المدينة فهي مختصة بالوجوب دون الإباحة : لأنها هجرة إلى الرسول ، فقد كانت هجرة من أسلم من مكة قبل الفتح إليه وهم فيها على ثلاثة أقسام :

                                                                                                                                            أحدها : من كان منهم في سعة مال وعشيرة ، لا يخاف على نفسه ولا على دينه ، كالعباس بن عبد المطلب فمثل هذا قد كان مأمورا بالهجرة ندبا ، ولم تجب عليه حتما . قال الله تعالى : ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله [ النساء : 100 ] .

                                                                                                                                            والقسم الثاني : من خاف على نفسه أو دينه وهو قادر على الخروج بأهله وماله ، فهذا قد كانت الهجرة عليه واجبة ، وهو بالتأخر عنها عاص : لأنه يتعرض بالمقام للأذى ويمتنع بالتأخر عن النصرة ، قال الله تعالى : الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها .

                                                                                                                                            والقسم الثالث : من خاف على نفسه أو دينه وهو غير قادر على الخروج بنفسه وأهله ، إما لضعف حال أو عجز بدن ، فهذا ممن لم يكن على مثله في المقام حرج ولا مأثم ، وهو بالتأخر عن الهجرة معذورا ، قال الله تعالى : إلا المستضعفين من الرجال [ ص: 104 ] والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا [ النساء : 98 ] يعني : لا يستطيعون حيلة بالخلاص من مكة ، ولا يجدون سبيلا في الهجرة إلى المدينة ، ويكون في التورية عن دينه بإظهار الكفر واستبطان الإسلام مخيرا كالذي كان من شأن عمار بن ياسر وأبويه حين تخلفوا عن الهجرة بمكة فامتنع أبواه من إظهار الكفر فقتلا ، وتظاهر به عمار فاستبقي ، فأنزل الله تعالى فيه : إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان [ النحل : 106 ] الآية ، فعلى هذا كانت الهجرة في زمان رسول الله ، صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية